بسم الله الرحمن الرحيم
خصائص العربية بين القديم والحديث
د . مصطفى أحمد عبد العليم
قسم اللغة العربية جامعة الإمارات العربية المتحدة
قد لا يكون من قبيل الزهو أو المبالغة أن نقول إن اللغة العربية هي أفضل اللغات( 1) ؛ فهي اللغة التي نزل بها القرآن الذي هو أفضل الكتب ، ولغة الإسلام الذي هو خير الأديان ، ولغة الأمة الإسلامية التي هي خير الأمم ، ولغة الحضارة الإسلامية التي هي أعرق الحضارات وأنفعها للبشرية ، وهي بعد ذلك لغة خالدة خلود التاريخ تولد لغات وتموت ، وتبلى لغات وتنقرض أخرى ، وهي باقية بقاء العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ؛ وذلك لأنها محفوظة بحفظ الله تعالى القائل :
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر 9].وهي بعد ذلك لغة توفر لها من الدقة والمنطقية والبيان والمرونة والوفاء بالمعاني ما لا يعرف له نظير في غيرها من اللغات .
وقد أدرك هذه الحقيقة العلماء العرب واعترف بها المنصفون من جهابذة الغرب.
يقول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 255هـ) :"ولابد من ذكر ... الدليل على أن العرب أنطق ، وأن لغتها أوسع ، وأن لفظها أدل ، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر ، والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسير"( 2). ويقول في موضع آخر : "والبديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة "( 3) .
(1) القول بتفاضل اللغات لا يتنافى ـ من وجهة نظرنا ـ مع المنهج العلمي ، وإن خالف في ذلك أكثر علماء اللغة المعاصرين ؛ ذلك أن التفاضل كائن بين كل شيء : بين البشر وبين الدواب ، وفي الأطعمة ، والأشربة والثمار والأمكنة وغيرها وحتى بين الرسل والملائكة والقرآن يقرر هذه الحقيقة في أكثر من موضع ، إذ يقول تعالى :"تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض "( سورة البقرة 253) ، ويقول سبحانه عن الأطعمة :" ونفضل بعضها على بعض في الأكل" (سورة الرعد 4) ، ونحن نرى البشر يتفاوتون في مواهبهم وملكاتهم العقلية والنفسية والجسمانية، ونرى الشعوب والمجتمعات تتفاوت في خصائصها ومواردها وظروفها، فكيف لا تتفاضل اللغات ؟
(2)انظر البيان والتبيين 1/384.
(3) السابق 4/55 .والجاحظ يشير هنا إلى عدد من خصائص العربية منها: سعة الألفاظ ، ودقة الدلالة ، وجودة الأمثال ، والبديع .
ويقول أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ ) :" وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتتانها في الأساليب ، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات . فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة ، والبيان ، واتساع المجال ما أوتيه العرب خصيصى من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب ..." ( )
ويقول أبو الفتح عثمان بن جني ( ت 392 هـ ):" واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع ـ يعني قضية أن اللغة إلهام أم اصطلاح ـ فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكرى ، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك على جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر "( ) .
وقد أفرد ابن جني كتابه الخصائص لتجلية خصائص العربية والتنقيب عن أسرارها وفضائلها فأتى من ذلك بما يشهد على علو كعبه في علم العربية وفقهها .
ولابن فارس ( 395 هـ ) كلامٌ مستفيض في فضل العربية في كتابه(( الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها )) ، يتجه فيه إلى تفضيل العربية على غيرها لنزول القرآن بها. ويقرر أنّ العربيّة توقيفٌ من عند ربِّ العالمين ، وأنها لغةً مصونةً مرعيَّةً برعاية الله ، وهي أعلى لغةٍ ، لنزول أعلى كتابٍ بها ، وأعظم دين ، كما عقد باباً لبيان أنّ (( لغة العرب أفضل اللُّغات وأوسعها )) ، صدّره بقوله تعالى
﴿ وإنّه لتنزيلُ ربِّ العالمين ، نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسانٍ عربيّ مبين ﴾ [ الشعراء 192 - 195 ] فوصفه ( جلّ ثناؤه ) بأبلغ ما يوصَفُ به الكلام ، وهو البيان " ( ).
ولم يكتف علماؤنا القدامي بالكلام عن فضيلة العربية ، بل تطرقوا إلى الحديث عن عدد من الخصائص التي تجعلها من أفضل اللغات ـ وقد أيدهم فيها المعاصرون ـ وأهمها :
1. التخفيف : قال ابن فارس : " ومما اختُصت بِهِ لغةُ العرب قلبهُم الحروف عن جهاتها، ليكون الثاني أخفَّ من الأول، نحو قولهم: "ميعاد" وَلَمْ يقولوا "مِوْعاد" وهما من الوعد، إِلاَّ أن اللفظ الثاني أخفُّ . ومن ذَلِكَ تركهم الجمعَ بَيْنَ السَّاكنَينِ، وَقَدْ تجتمع فِي لغة العجم ثلاث سواكن. ومنه قولهم: "يَا حارِ" ميلاً إِلَى التخفيف "( ).
ومن مظاهر التخفيف البارزة في العربية غلبة الأصول الثلاثية ،وقد أشار إليها ابن جني إذ يقول: " إن الأصول ثلاثة : ثلاثي ورباعي وخماسي، فأكثرها استعمالا وأعدلها تركيبا الثلاثي وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يُحشى به وحرف يوقف عليه " ثم يقول مبينا الحكمة من غلبة الثلاثي : " فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه "( ).
وقد أشار بعض المعاصرين إلى أن غلبة الألفاظ الثلاثية من خصائص العربية، ولا تكاد لغة أخرى تشاركها في هذه السمة الواضحة ، وكان الأصل الثلاثي عمدة الاشتقاق الذي هو من أبرز خصائص العربية ".( )
وإن مقارنة يسيرة بين العربية وغيرها من اللغات الأوربية لتظهر لنا صحة هذه المقولة ، ففي هذه اللغات تسود الكلمات الطوال ذوات العدد كما يتضح من الجدول الآتي :
الكلمة في العربية الإنجليزية الفرنسية الألمانية
مبنى building Le batiment Das gebaude
جامعة university L`universite Die universitat
مكتبة library La bibliotheque Die bucherei
تسلية entertainment Les divertissement Die unterhaltung
Der vater Le pere father أب
Die mutter La mere mother أم
Der Gross vater Le grand-pere Grand-father جد
Die Gross mutter La grand-mere Grand-mother جدة
Der Bruder Le frere brother أخ
Die schwester La soeur sister أخت
ففي هذا الجدول نلاحظ أن الكلمات القصيرة في العربية ذوات الحرفين أوالثلاثة أوالأربعة تقابلها كلمات طويلة في اللغات الأوربية قد تصل إلى عشرة أحرف أوتزيد ، ومن المعروف أن أقصى ما تصل إليه الكلمات العربية بالزيادة سبعة أحرف في الأسماء كما في استخراج ، واستعمار ،وستة في الأفعال كما في استخرج واستعمر، في حين أن الكلمات في اللغات الأوربية قد تصل إلى خمسةعشر حرفًا أو أكثر كما في internationalism بمعنى الدولية وincomprehensible بمعنى غامض في الإنجليزية ، و enstschuldigung بمعنى معذرة في الألمانية . ولا شك أن لهذه الخاصية فوائد جمة في العربية ففيها توفير للوقت والجهد والمال ؛ فالنطق بالكلمات الصغيرة أخف على اللسان وأسرع في الوقت وأخصر في الكتابة من الكلمات الطويلة .
وتعد الجذور الثلاثية سمة من سمات اللغات السامية عمومًا، ولكن أكثر الساميات اليوم غير مستعمل ، إلا نادرًا، وهذا القليل النادر غير مطابق في أكثره لقواعد الساميات القديمة ، فصح أن تعد هذه سمة من سمات العربية .
2- سعة المفردات: والعرب يعبرون عن الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، يقول ابن فارس : "ومما لا يمكن نقله ألبتة أوصاف السيف والأسد والرمح وغير ذلك من الأسماء المترادفة ، ومعروف أن العجم لا تعرف للأسد أسماء غير واحد . فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم "( ) .
ويقول ابن فارس أيضًا :" وحدثني أحمد بن محمد بن بُندار قال : سمعت أبا عبد الله بن خالويه الهمذاني يقول : جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين " ( ).
وقد كتب الفيروز آبادي من بعد كتابًا في أسماء العسل . ذكر فيه أكثر من ثمانين اسمًا، وقرر مع ذلك أنه لم يستوعبها جميعها.ويرى الفيروز آبادي أنه يوجد للسيف ألف اسم على الأقل( ) .
وهذا الذي يصرح به ابن فارس والفيروزآبادي يقرره علماء اللغة المعاصرون من الشرق والغرب إذ يذكر الدكتور علي عبد الواحد وافي ـ وكان عضوًا بالمجمع اللغوي بالقاهرة ـ أن الأستاذ دوهــــامر De Hammer جمع المفردات العربية المتصلة بالجمل وشئونه ، فوصلت إلى أكثر من خمسة آلاف وستمائة وأربع وأربعين " ( ) ، كما يقرر الدكتور وافي نفسه أن من أهم ما تمتاز به العربية أنها أوسع أخواتها السامية ثروة في أصول الكلمات والمفردات . فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية أو على معظمها، وتزيد عليها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول ، وأنه تجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة اسمها وفعلها وحرفها ، ومن المترادفات في الأسماء والصفات والأفعال ... ما لم يجتمع مثله للغة سامية أخرى ، بل ما يندر وجود مثله في لغة من لغات العالم."( )
ويقول المستشرق الألماني نولدكه : " إنه لابد أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية ، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطة جدًا ، ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة... والعربية الكلاسكية ليست غنية فقط بالمفردات ولكنها غنية أيضًا بالصيغ النحوية "( )
وترجع وفرة المفردات في اللغة العربية إلى خاصة أخرى ثالثة.
3- وهي الاشتقاق تلك الخاصة التي تتيح للغة العربية إنتاج عدد كبير من الكلمات من جذر واحد مثل اشتقاق كاتب ومكتوب ومكتب ومكتبة وكتاب ومكاتبة ...إلخ من الجذر كتب ، ويسمي الدكتور نبيل علي هذه الظاهرة بالفائض اللغوي ويشبهها بالشجرة ذات الجذور القليلة والأوراق
الكثيرة ؛ لذا فهي توصف بأنها شجرة ثقيلة القاع ، فرغم صغر نواة المعجم ( أقل من عشرة آلاف جذر) تتعدد المفردات بصورة هائلة وذلك بفضل الإنتاجية الصرفية العالية .وتقدر قيمة هذه الإنتاجية بقسمةعدد كلمات المعجم المشتقة على عدد الصيغ الصرفية ، وهي لا تقل في المتوسط عن 300 كلمة لكل صيغة ، وهي نسبة عالية حتمًا إذا ما قورنت بإنتاجية قواعد تكوين الكلمات في اللغات الأخرى ." ( )
والقيمة العلمية لهذه الخاصية أنها تعزز من قدرة العربية على الوفاء بالمتطلبات العلمية الحديثة ولا سيما صياغة المصطلحات وتوليد الألفاظ الجديدة والبرمجة الآلية ، ولعله من المفارقات العجيبة أن نجد العربي القديم يضع للجمل والسيف مئات الأسماء ، ثم نتحير نحن اليوم في وضع بضعة أسماء لمخترعات حديثة مثل المذياع والتلفاز والحاسوب وغيرها .
4. الإعراب والتمييز بين المعاني بالحركات وغيرها: ويرى ابن فارس أن من العلوم الجليلة التي اختصت بها العرب الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ ...ولولاه ما ميز فاعل من مفعول ولا مضاف من منصوب ولا تعجب من استفهام ولا صدر من مصدر ولا نعت من توكيد( ) .
كما يقرر في موضع آخر أن للعرب في ذلك ما ليس لغيرهم ؛ فهم يفرقون بالحركات وغيرها بين المعاني يقولون : مِفتح للآلة التي يفتح بها ، ومَفتح لموضع الفتح ، ومِقص لآلة القص ومَقص للموضع الذي يكون فيه القص( ) .
ويقولون : امرأة طاهر من الحيض ؛ لأن الرجل لا يشركها في الحيض ،وطاهرة من العيوب ؛ لأن الرجل يشركها في هذه الطهارة . وكذلك قاعد من الحَبَل وقاعدة من القعود ( ).
وتقول : كم رجلا رأيت ؟ في الاستخبار . وكم رجل رأيت في الخبر يراد به التكثير( ).
وفي هذا الكلام من ابن فارس إشارة هامة إلى دور الحركات عمومًا في التمييز بين المعاني المختلفة ليس فقط على مستوى الإعراب ولكن أيضًا على مستوى البنية المفردة .
وقد أشار علماء اللغة المعاصرون إلى هذه الخاصية للغة العربية ، فيقول الدكتور علي عبد الواحد وافي اعتمادًا على أقوال المستشرق رينان :" تمتاز اللغة العربية في شئون التنظيم بتلك القواعد الدقيقة التي اشتهرت باسم قواعد الإعراب والتي يتمثل معظمها في أصوات مد قصيرة ، تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة . وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية ، اللهم إلا بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية والآرامية والحبشية " ( ) .
ويقول المستشرق يوهان فك :" قد احتفظت العربية الفصحى ، في ظاهرة التصرف الإعرابي ، بسمة من أقدم السمات اللغوية التي فقدتها جميع اللغات الساميةـ باستثناء البابلية القديمة ـ قبل عصر نموها وازدهارها الأدبي وقد احتدم الصراع حول غاية هذا التصرف الإعرابي
في لغة التخاطب الحي فأشعار عرب البادية قبل الإسلام وفي عصوره الأولى ترينا علامات الإعراب مطردة كاملة السلطان ."( )
والقيمة العلمية لهذه الخاصية أنها تتيح للعربية قدرة هائلة في التعبير عن المعاني والتفنن في الأساليب ، وتجعلها أكثر مرونة وتصرفًافي بناء التراكيب .
5. وفرة مخارج الأصوات : أشار ابن فارس إلى اختصاص العربية ببعض الأصوات مثل : الهمزة ، والحاء ، والطاء ، والضاد ، يقول عن الهمزة : " والعرب تنفرد بها في عرض الكلام ، مثل " قرأ " ، ولا يكون في شئ من اللغات إلا ابتداء ( ).
وقال:" ومما اختصت به لغة العرب الحاء والطاء . وزعم قوم أن الضاد مقصورة على العرب دون سائر الأمم" ( ).
وقال الباقلاني عن هذه الخاصية :"...ولضيق ما سوى كلام العرب أو لخروجه عن الاعتدال يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيرًا كتكرر الطاء والسين في لسان يونان، وكنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك ".( )
وهذا ما يقرره علماء اللغة المعاصرون أيضًا ؛ إذ يذكرون أن العربية أكثر أخواتها احتفاظًا بالأصوات السامية ؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات التي اشتملت عليها أخواتها السامية ، وزادت عليها بأصوات كثيرة لا وجود لها في واحدة منها : الثاء والذال والغين والضاد . ( )
ويقول المستشرق برجستراسر : " فالضاد العتيقة حرف غريب جدًا غير موجود على حسب ما أعرف في لغة من اللغات إلا العربية "( )
وقد عني الأستاذ العقاد بهذا الجانب من خواص العربية في كتابه اللغة الشاعرة ، فبعد أن أوضح الفرق بين الأبجدية العربية وغيرها من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية ، أو اللغات الطورانية ، أو اللغات السامية قال : " وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددًا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها ، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية "( ) ثم يقول :" تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء ، أو توجد في غيرها أحيانًا ، ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة "( )
وقد عني الدكتور محمد المبارك بهذا الجانب من خصائص العربية فقال : " إن أول ما يبدو من صفات الحروف العربية توزعها في أوسع مدرج صوتي عرفته اللغات ، ذلك أن الحروف العربية تندرج وتتوزع في مخارجها ما بين الشفتين من جهة وأقصى الحلق من جهة أخرى فتجد الفاء والباء والواو الساكنة ومخارجها من الشفتين من جانب ، والحاء والهاء والعين والهمزة ثم الغين والخاء على التدرج ومخارجها من الحلق أقصاه فأدناه من جانب آخر ، وتتوزع باقي الحروف العربية بينهما في هذا المدرج . وقد تجد في لغات أخرى غير العربية حروفًا أكثر عددًا ولكنها محصورة مدارجها في نطاق ضيق وفي مدرج أقصر"( ) .وفي هذا ضيق في الأفق الصوتي واختلال في الميزان الصرفي وفقدان لحسن الانسجام بسبب سوء توزيع الحروف .
ويراعي العرب في اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة وتوزعها وترتيبها فيها حدوث الانسجام الصوتي والتآلف الموسيقي. فمثلاً: لا تجتمع الزاي مع الظاء والسين والضاد والذال. ولا تجتمع الجيم مع القاف والظاء والطاء والغين والصاد، ولا الحاء مع الهاء، ولا الهاء قبل العين، ولا الخاء قبل الهاء ، ولا النون قبل الراء ، ولا اللام قبل الشين.
وأصوات العربية ثابتة على مدى العصور والأجيال منذ أربعة عشر قرناً. ولم يُعرف مثل هذا الثبات في لغة من لغات العالم في مثل هذا اليقين والجزم. إن التشويه الذي طرأ على لفظ الحروف العربية في اللهجات العامية قليل محدود، وهذه التغيرات مفرقة في البلاد العربية لا تجتمع كلها في بلد واحد. وهذا الثبات، على عكس اللغات الأجنبية، يعود إلى أمرين : القرآن،ونزعة المحافظة عند العرب.
وللأصوات في اللغة العربية وظيفة بيانية وقيمة تعبيرية، فالغين تفيد معنى الاستتار والغَيْبة والخفاء كما نلاحظ في : غاب ، غار ، غاص ، غال ، غام. والجيم تفيد معنى الجمع : جمع ، جمل، جمد ، جمر. وهكذا.
وليست هذه الوظيفة إلا في اللغة العربية، فاللغات اللاتينية مثلاً ليس بين أنواع حروفها مثل هذه الفروق، فلو أن كلمتين اشتركتا في جميع الحروف لما كان ذلك دليلاً على أي اشتراك في المعنى. فالكلمات التالية في الفرنسية مشتركة في أغلب حروفها وأصواتها ولكن ليس بينها أي اشتراك في المعنى مثل Ivre سكران oeuvre أثر أو تأليف ouvre يفتح livre كتاب lèvre شفة.
والقيمة العلمية لهذه الخاصية أنها تعطي العربية قوة في البيان ، ووضوحًا شديدًا في السمع ، وجمالا في التعبير ، وانسجامًا في التركيب .
6. العروض : قال ابن فارس : " ثم للعرب العروض الذي هو ميزان الشعر، وبه يعرف صحيحه من سقيمه( ) .
وقد أشار غير واحد من المستشرقين إلى اختصاص العربية بعلم العروض ، يقول العلامة المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في بحث له بعنوان " مقام الثقافة العربية بالنسبة إلى المدينة العالمية ":" وأما في علوم اللغة فإن الفكر السامي لم يصل إلى علم العروض إلا عند العرب "( )
وقد أفاض الأستاذ العقاد في بحث الخاصية الموسيقية للغة العربية في كتابه اللغة الشاعرة ويظهر من عنوان الكتاب ومن شرح العقاد له أنه يعني باللغة الشاعرة اللغة التي بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية ؛ فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات ، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء .
وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة ، إلى تركيب مفرداتها على حدة ، إلى تركيب قواعدها وعباراتها ‘ إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد ." ( )
يتبع