يس هناك أمة، على وجه الأرض، لها من مقدمات الوحدة والوفاق، والبناء المشترك والعمل الموحد مثل الأمة الإسلامية، لأن دينها واحد، وعقيدتها واحدة، وأخلاقها وتطلعاتها واحدة، وانتماءها الى جذع واحد أو أمة واحدة، ووجودها يفرض عليها وحدة المسيرة والاتجاه، وتاريخها واحد، ورقعتها الجغرافية واحدة أو متقاربة الحدود والامتداد من الشرق الى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب، ومصادر ثقافتها ومعارفها واحد لاتعدد فيها ولا ازدواجية، ونصوص شريعتها واضحة في الأصول والجوهر والغاية، ومصيرها واحد، وهو لقاء رب العالمين، وإيمانها بمالظلم والطغيان الخلق أجمعين.
ومصادر الاجتهاد فيها واحدة أيضاً، وان شابها شيء من الاختلاف في التطبيق، أو الخلاف في الفروع، ما عكر صفاء الفكر ووحدة العمل، فعني الكثير من الأمة بمظاهر الاختلاف الواهية أو المحدودة، وتركوا الجذور والأصول والمنطلقات، وصعب، في مسيرة التاريخ، التخلص من هذه الشوائب، وبعد الناس عن المنبع، واشتغلوا بالسواقي والجداول.
ولم يتخلص العلماء بالذات، فضلاً عن العوام، من العناية بالخلافات، وضخموا مسائل الاختلاف، وهولوا وقائع النزاع، وتركوا نقاط الاتفاق والتلاقي، وصنفوا العديد من المصنفات في بيان أسباب الاختلاف بين الفقهاء، إما بحسن نية ليعذر الناس العلماء في ما اختلفوا فيه، أو بسبب الولع بتتبع الخلافات، الأمر الذي أنسى الأمة، في خزانة الفكر الإسلامي أو الإنساني، ظاهرة الوفاق والتوحد، ورصدوا الكثير من مسوغات الخلاف، ما جعل المسلم يعني بالاختلاف، وينسى الاتحاد أو الوحدة.
لذا لم أجد مصنفاً واحداً، في القديم والحديث، عني بالأمر البدهي أو الأصيل الإسلامي، وهو وحدة الفكر والمصدر والاستنباط، لحمل الناس عليه، علماً بأن نقاط الاتفاق والاتحاد اكثر بكثير من نقاط الخلاف والخصام والتعصب المذهبي.
وإذا كنا، اليوم، نعاني الكثير مما خلفه التاريخ العلمي والواقع المجزأ المبني عليه، فقد آن لنا في رصيد الصحوة الإسلامية الحاضرة أن نعود للأصول الواحدة، والمشاعر الواحدة، والأفكار الواحدة، لنبني تاريخاً جديداً قام صرح الإسلام العظيم في الماضي على أصوله الواحدة، وثوابته القائمة التي لاتتغير ولاتتبدل.
ونحن، اليوم، أكثر من أي وقت مضى بأشد الحاجة للوقوف صفاً واحداً، أمام التحديات الكثيرة والمدروسة التي تهدف الى القضاء على وجودنا، وزعزعة استقرارنا، ونهب ثرواتنا، وإضعاف بنيتنا، والتشكيك في مقدراتنا، بل وفي عقائدنا ومقدساتنا، وعلومنا وشرعنا، وتاريخنا وسيرة سلفنا. وإذا وجد، في هذا التاريخ المضيء، بعض المآسي والجروح، فإن ذلك أقل بكثير مما نجده في تاريخ الأمم الأخرى ولاسيما اهل الغرب.
ولكن الى متى تظل مآسي التاريخ الجانبية تفرق بين الاخوة، وأبناء الدم الواحد، والمصدر الواحد؟! والى أي مدى يسمح علماؤنا، من أي مذهب كان، بأن تظل أسارى تلك النقاط المظلمة في تاريخنا، والمعكرة لصفونا، والتي تباعد بين الإخوة، وتبقي الفرقة، كأنها الأصل، وتنسى الوحدة وهي الجذر؟!
إننا، نحن العلماء، آثمون الإثم من حيث ندري أو لاندري إذا لم نعد حساباتنا، ونفكر في مصائرنا، ونعمل من جديد على إعادة وحدة الأمة في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والاعتقاد، والاجتهاد والاستنباط، والتربية والتعليم، والتوجيه والتثقيف، وبناء حياة مزدانة بكل عناصر القوة، والمجد، والجدية، والنهوض من الكبوات، ونسيان الخلافات الماضية التي ليس لإثارتها أو إحيائها أو التحدث فيها أي معنى، بل إنها سم زعاف، وضرر محض يؤدي لإحياء الحديث في تلك الخلافات، التي تفرق ولاتجمع، وتهدم ولاتبني، وتمزق ولاترقأ، وتضعف ولاتقوي أو تعالج، وتثير النزاع ولاتؤاخي أو تضمد الجراح.
إنني أشك في أمانة العالم أو المؤرخ الذي يكثر من الحديث، او التحقيق، أو الإعلان او المقال الآن عن جراح الماضي، وما أدت اليه من الفرقة المذهبية، والتشتت الوجداني، والضياع القاتم، وماعلى العالم أو الفقيه إلا أن ينبه الى العمل بأوجه اللقاء والتفاهم، والترفع عن الأحقاد والخصومات، وتناسي الثارات، والعمل على صعيد مشترك يحقق الوحدة الإسلامية.
إنني أعيد الحساب بنفسي، لعل غيري يقلدني، ويبدأ الجميع في نسج فكر واحد، وبناء مجد واحد، والتصدي لعدو شرس خطير واحد، فهل من متذكر أو مستجيب؟!
إن الصلح في الفكر والتراث وكل النزاعات، ولاسيما أمام المخاطر، هو جوهر صفاء الدعوة الى الله والى الإسلام الحق، والى الوجود الدولي الإسلامي الواحد.
نقاط الاتفاق والالتقاء بين المذاهب الإسلامية:
١- وحدة الدين
إن الدين عند الله الإسلام، والاسلام واحد وهو جوهر جميع الرسالات الإلهية، وهو والمرسلين، إنهم دعوا الى إله واحد، ورب واحد. فالله هو الإله الواحد، والخالق الواحد، والرب الواحد، وأركان الإيمان في الإسلام واحدة، إنها إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأركان الإيمان في الإسلام بالمعنى الخاص الذي عليه المسلمون الآن بجميع فرقهم ومذاهبهم واحدة، إنها شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً من المسلمين.
والمسلمون، بمختلف مذاهبهم، في الماضي والحاضر، متفقون في أركان الإيمان والإسلام، وعناصر الاعتقاد، وإن اختلفوا في تفاصيل الفكر الإيماني والفلسفي، فإن الخلاف بين من يسمون بالسلفية، والأشاعرة، والماتريدية، والمعتزلة قريب الجوانب.
وإذا كان الشيعة: الإمامية والزيدية، والإباضة، اليوم، على مذهب المعتزلة، فليس ذلك بموجب للتباعد بيننا، فهو مذهب قوي الحجة، يمكن قبوله بسهولة، إذا فهم، كما يمكن أن يكون ملتقياً مع مذاهب أهل السنة في الهدف والجوهر.
وقد تفضل الله على المسلمين بإتمام النعمة وإكمال الدين، وهو الأساس، فلا داعي للابتعاد عنه بسبب الخلاف في الفروع، قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتمتت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً. . }.
وجاءت النصوص القرآنية تؤكد ضرورة الالتقاء على أصول الدين، فقال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا. . }. وقال الإمام الرازي :"أمر الله، في هذه الآيات، المؤمنين بمجامع الطاعات، ومعاقد الخيرات، فأمرهم أولاً بتقوى الله، وهو قوله :"اتقوا الله"، وثانياً بالاعتصام بحبل الله، وهو قوله:"واعتصموا بحبل الله" وثالثاً بذكر نعم الله، وهو قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم". ولما أمرهم الله تعالى بالاتقاء عن المحظورات، أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله.
حبل الله: يشمل كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين".
وفسر العلامة الطباطبائي "حبل الله" بأنه التمسك بآيات الله ورسوله (الكتاب والسنة). "وحبل الله: هو الكتاب المنزل من عند الله، وهو الذي يصل ما بين العبد والرب، ويربط السماء بالأرض. والتمسك بذيل الرسول: تمسك بذيل الكتاب، فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وفي سورتين متجاورتين، أو متقاربتين في الترتيب التوقيفي، أعلن الحق، سبحانه، أن ملة التوحيد والإسلام واحدة، فلا يصح أن تكون مدعاة للتفرق والتشتت، فقال الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون. وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل إلينا راجعون}. قال الرازي:"إن هذه أمتكم" خطاب للناس قاطبة، والإشارة الى ملة التوحيد والإسلام. والأشهر، في تفسير الأمة، أنها الناس المجتمعون على أمر أو في زمان، وإطلاقها على الدين نفسه مجاز. وظاهر كلام الراغب الأصفهاني أنه حقيقة أيضاً، وهو المراد هنا. وأريد بالجملة الخبرية: الأمر بالمحافظة على تلك الملة ومراعاة حقوقها. والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها، وتراعوا حقوقها، فافعلوا ذلك.
وفي سورة "المؤمنون": {وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون. فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون. فذرهم في غمرتهم حتى حين}.
قال الطباطبائي:"والمعنى أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر، وهي أمة واحدة، وأنا – الله الواحد عز اسمه – ربكم، إذ ملكتكم، ودبرت أمركم، فاعبدوني لاغير، واتقوني، لكن كل بما لديهم فرحون. والزبر: الكتب، أو الفرق، أي وتفرقوا في أمرهم جماعات وأحزاباً".
تضمنت الآيات أمرين مهمين جداً، الأول: أن الملة واحدة والذين واحد، والثاني: الحملة الشديدة بالتأنيب والتوبيخ واللوم على الناس الذين تجاوزوا وحدة الملة والدين، وتفرقوا جماعات وأحزاباً. قال قرطبي : "والمراد جميع الخلق، أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعاً، وتسقموه بينهم، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. والكل الى حكم الله راجعون فيجازيهم".
وإذا كان هذا في الأمم جميعاً، فالأولى بأمة الإسلام أن تتحد، وتمتنع عن الفرقة والتمزق، وتسعى لرأب الصدع، وتجاوز الخلافات، وإنهاء المنازعات.
وعبرت السنة النبوية عن وحدة المسلمين بأنهم كالجسد الواحد المتماسك، فقال النبي (ص)، واضعاً أولاً اساس الوحدة وهو الأخوة: "المسلم أخو المسلم"، وهذا يلتقي مع قول الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ثم عقد النبي بين الإخوة عقدة لا تنفصل فقال:"المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وهذا الوصف تعبير بالإسلام، وفي حديث آخر تعبير بالإيمان:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وبرأ القرآن الكريم رسوله من الصلة بالمشركين وأهل الملل الأخرى، والمتنازعين المتخالفين، فقال الله تعالى: {إن الذ ين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، لست منهم في شيء، إنما أمرهم الى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}. قال المراغي:"أي أن الذين فرقوا دينهم، فأقروا ببعض، وكفروا ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى، إذ تفرقوا فرقاً، وكفر بعضهم بعضاً، وأخذوا بعضاً، وتركوا بعضاً، كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
٢- وحدة الانتماء
المسلمون، في أنحاء العالم، إما عرب لحماً ودماً وموقعاً جغرافياً وتاريخياً حضارياً، وإما مسلمون من جنسيات مختلفة، ولغات مختلفة، وبلدان متباعدة أو متقاربة، ولكن الإسلام صهر الجميع في بوتقة واحدة هي الانتماء للأمة الإسلامية، ذات المبدأ الواحد،والنظام الواحد، والخلق الواحد، والتاريخ الواحد، والآلام والآمال الواحدة، يلتقون جميعاً على مائدة الإسلام العظيم الذي ضم بجناحيه جميع المسلمين في المشارق والمغارب، وحملهم جميعاً أمانة تبليغ الدعوة الى الله في جميع الأزمان والمكنة. وآخى بينهم برابطة الأخوة الإيمانية، كما في قول الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون}.
وكان المسلم، في صدر الإسلام، لا يعتز بغير انتمائه للإسلام، فيقول قائلهم:أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو معدّ وجعل الله، تعالى، لهذه الأمة مادامت متمسكة بدينها، ملتزمة بشريعة ربها عزة خالدة، ونصراً مبيناًً، فقال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لايعلمون}.
ووحدة الانتماء التي تظللها عزة الإسلام، وتؤطرها وثيقة الارتباط بدين واحد ورب واحد، مدعاة لعقد أواصر الود والتفاهم والتضامن، والعمل الواحد في ميدان واحد، ميدان الجهاد لإثبات الذات، والوقوف صفاً واحداًً في مواجهة قوى الشر والعدوان، وتحطيم نزعة الاستكبار العالمي، والطغيان المعادي للدين الحق، والقيم الإنسانية العليا.
ووحدة الانتماء للدين الإسلامي الواحد تحقق هوية الأمة الإسلامية وتثبت ذاتيتها.
٣- وحدة النصوص التشريعية
الوحدة التشريعية من أهم ركائز الوحدة بين المجتمعات أو الجماعات والأمم والشعوب، وقد توافرت للأمة الإسلامية وحدة التشريع، بما حفظه الله لها في مصدريها الأصليين، وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لذا أمر الله تعال باتباعهما، تحقيقاً لخير الأمة، في آيات كثيرة، مثل قول الله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} {أطيعوا الله ورسوله ولاتولوا عنه وأنتم تسمعون}. وذلك لأن النص هو المرجع الأول للمجتهدين جميعاً، وعليه مدار استنباط الأحكام الشرعية، فإذا صح ثبوته وصرحت دلالته، وسلم من المعارض، كان عليه الاعتماد في الحكم بالاتفاق.
وإن أهم مايبرز الشخصية الإسلامية في العالم الإسلامي، أن قاعدة التعامل بين أفراد الأمة واحدة ثابتة واضحة، تتمثل في نظام العقود المدنية والشخصية والاقتصادية والاجتماعية، وفي نظام العقوبات، فانى اتجه المسلم في أرض الإسلام، يجد احترام عقود المعاملات على اساس من التراضي، والبعد عن التدليس والغش، والاحتكار في أصل النظام، والامتناع عن الربا والغرر (بيوع الأشياء الاحتمالية) وإخلاء العقد من الجهالة والعجز عن التسليم، وانعدام المعدوم، في ماعدا المستثنيات كعقود السلم والاستصناع، وعقود الاستثمار المشروع من مضاربة وشركات، وعقود استغلال الأراضي بطريقة المزارعة والمساقاة والمغارسة، وحماية مصالح الدائنين بالتوثيقات الثلاثة: وهي الشهادة، والكفالة، والرهن، ومنع التعسف في استعمال الحق، وتجنب الضرر والضرار، والأذى في علاقات الجوار.
وتطبيق قواعد الإسلام الكبرى، في نظام الحكم، من مراعاة العدالة في القضاء والحقوق والواجبات، وتحقيق المساواة أمام الشريعة، والتزام قاعدة الشورى في الحكم ومختلف الأنشطة.
والحرص على تنمية الاقتصاد وقوة المال من طريق البحث عن الموارد، وإقامة المصانع والمشاريع، وإنهاء البطالة، والتغلب على مشكلات الفقر والمرض والجهل، بطريق استخدام وسائل التنمية الاختيارية من زكوات وأوقاف وهبات وصدقات ونذور ونحوها.
هذه الظاهرة تجدها واضحة في المجتمع الإسلامي إما نظرياً وعملياً، وبخاصة نظام البنوك اللاربوية والتأمين التعاوني الإسلامي، أو نظرياً، حيث يتطلع كل مجتمع بحنين بالغ الى الوقت الذ يجد فيه الناس شرع الله مطبقاً في جميع جوانبه.
ولقد خطت بعض البلاد الإسلامية خطوات سديدة ومشرفة في هذا المجال، ولا يزال الكثيرون ينتظرون إقرار الأنظمة المستمدة من شريعة الله ودينه، ويومئذ يفرح المؤمنون.
٤- وحدة العمل ضد عدو مشترك واحد
وهذا من أولى الواجبات في خط المسيرة الإسلامية الظافرة. والمعلوم أن اعداء العالم الإسلامي صنفوه في مواجهة العالم الغربي، أو الصليبي – الصهيوني. وإذا كنا، في هذا التصنيف، لاخيار لنا، وإنما زج بنا في حمأة الكراهية والتعصب، وفي دوامة الحقد الصليبي – الصهيوني، فعلينا، في قاموس أبسط الأشياء والبدهيات، ان نستعد لهذه المواجهة بمختلف الوسائل وبذل كل الطاقات والإمكانات لصد الخطر، والانتصار على البغي والظلم والعدوان.
والسيل المتعين، أمام الأمة الإسلامية، هو شيء واحد نفتقده جميعاً ألا وهو وحدة العمل، ووحدة التخطيط، وصلابة القوة والإرادة، وعزيمة الأشداء، وجهاد الأقوياء الشرفاء، من غير خيانة أو طعن من الخلف، أو هرولة لإرضاء العدو، أو مبادرة فردية للتنصل من مقتضيات العمل الواحد.
وليكن التزامنا أول مانتصور بالبعد عن الخيانة، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لاتخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.
وإن من الواجب أن يبدأ المسلمون، في عالمهم، بالعمل على وحدة اقتصادية أو سوق مشتركة، والتعاون، في جميع الأصعدة السياسية والدفاعية والداخلية والخارجية، على إقامة وحدة أو أتحاد إسلامي، قد يسهم بهذا الإسم أو بغيره من الأسماء، مع تقدير الظروف الدولية، والبدء بالأولويات الضرورية، ثم "الحاجية"، ثم التحسينية، وهذا هو نظام مقاصد الشريعة المطهرة، وكل ذلك في مظلة جيش قوي سريع التحرك، مزود بمختلف الأسلحة الملائمة. ومما لاشك فيه أن الاعتماد على الذات، والتصنيع الداخلي، ضرورة حتمية لأي توجه صحيح.
وينبغي أن ندرك إدراكاً جازماً أن العدو الذي أعلن العداوة للعالم الإسلامي في حلف الناتو (الحلف الأطلسي) مهماً جاملنا، فإنه يمكر بنا ويتآمر على مصالحنا. فلا بد من فهم مداخل الأعداء ودراسة مخططاتهم، ومحاولة إحباط أهدافهم في المدى القريب والبعيد.
وليس هناك للأعداء هدف أكثر من إثارة الاختلافات، وتمزيق الصفوف، والنفاذ الى وحدة الأمة بأساليب مختلفة، ونحن الآن واقعون في شراكها ولاندري أمن إدراك لهذا أم نحن في غباء وبلادة وسذاجة؟!
وأستبعد الغباء، ولكني أؤكد الحرص على دعم النظام القائم، مهما كانت الوسيلة شريفة أم دنيئة، أمينة أم خائنة، متآمرة أم مستضعفة، ونستعين بالله تعالى من حب الدنيا، وكراهة الموت، وحب السلطة، والبعد عن شرع الله، إلا من رحم ربك من قلة فذة ذكية وواعية، وذات أفق بعيد، وحرص على المصالح الأساسية للأمة.
٥- وحدة المصادر الاجتهادية
إن مصادر الاجتهاد، واستنباط الأحكام التي يجب على كل مسلم احترامها وتنفيذها، إما نصية أو اجتهادية في مالانص فيه.
أما النصوص الشرعية فواضحة كل الوضوح في بيان مايجب ومايمتنع، ومايجوز ومالايجوز، لأن الحلال بين والحرام بين، ولسنا نعجز مهما كنا بعيدين عن أصالتنا وتشريعنا عن معرفة ما هو متفق مع شرع الله ودينه، وما يخالفه ويعارضه، أو يتصادم معه.
وعلى كل حال، فإن نقاط الالتقاء والتفاهم بين المذاهب الإسلامية كثيرة، ونقاط الخلاف والتباعد قليلة محدودة، وكما يتبين ممايأتي:
اتفق المسلمون جميعاً، من مختلف المذاهب والفرق، على حجية القرآن والسنة، فهما مصدرا التشريع الأساسيان، ولايستطيع مسلم إنكار حكم صريح ثابت فيهما، وإن اختلف المسلمون في بعض المقصود من البيان الشرعي، أو طريق وصول السنة النبوية إلينا، أو تحديد المراد بالسنة، والعبرة بالنتائج فلا نجد خلافاً كبيراً في الأحكام الشرعية المستمدة من هذين المصدرين، فإن وجد اختلاف، فهو في بعض الفروع والجزئيات، لا في الجوهر أو المضمون، ولا في الغاية والمقصود، ولا في حكمة التشريع.
أما القرآن الكريم فلا خوف إطلاقاً بين أهل السنة والشيعة على المسائل القطعية فيه، المعلومة من الدين بالضرورة، أي البداهة، مثل الشهادتين والشرط بالله، وفرض الصلوات الخمس، والزكاة والحج، وصوم رمضان، وتحريم الزنا، والقتل، والسرقة، وشرب الخمر، وتحريم الربا والغيبة والنميمة، وإساءة الظن، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل، وشهادة الزور، والضرر، وتطفيف الكيل والميزان، واحترام الوصايا العشر المذكورة في آيات سورة الأنعام الثلاث وهي: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، ولاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولاتقربوا الفواحش ماظهر منها ومابطن، ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون. ولاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لانكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل، فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
وإيجاب الكفارات مثل كفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين، وفرض عقوبات الحدود، مثل حد الزنا والسرقة والحرابة، والقذف، وتشريع الزواج وإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، ورجعة المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً، ونفقة الزوجة، والميراث، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها في قول الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وماأهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وماأكل السبع إلا ماذكيتم، وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون...}.
وإحلال الطيبات والصيد، وتحريم الخبائث، وحل الزواج بالكتابية، ووجوب أداء الشهادة وتحريم كتمانها، وإشهاد ذوي عدل، وإباحة البيع والشركة والإجارة والصلح ونحوها من عقد المعاملات، وإيجاب فرائض الوضوء، والغسل من الجنابة والحيض، والترخيص للمسافر والمريض بالإفطار في نهار رمضان وإيجاب القضاء في أيام أخر، والتيسير على الشيخ الكبير بأداء الفدية، وإباحة التيمم لفاقد الماء والعاجز عن استعماله والمريض، ونحو ذلك كانواع العدد: (عدة الطلاق وعدة الوفاة وعدة الحامل).
كل هذا مما ورد به النص صراحة، فلا خلاف فيه بين المذاهب الإسلامية. أما ما ورد به النص الظني الدلالة في القرآن فهو كلاجتهاد، مثل تفسير القرء بحيض أو طهر في العدة، ومقدار النفقة الزوجية، ومقدار الكفارة بالطعام، وإيجاب الإيمان في عتق الرقبة في كفارة الظهار واليمين ونحو ذلك، فالخلاف فيه هين يسير، ولامانع في مجال الاجتهاد في الظنيات من وقوع الخلاف، وهو مسموح به شرعاً، ومرفوع فيه الحرج، بل يثاب كل مجتهد، سواء خطأ أم صاب في اتجاه أكثر العلماء، ولا إثم على مقلد أي مجتهد، لأن الحق أو اليقين لايعرف بعد انقطاع الوحي وانتهاء النبوات. ولايصح أن يكون مجال الاجتهاد المعفو عنه سبباً للتفرقة وإساءة الظن، والمبادرة بالتكفير أو التفسيق لمن أخطأ، فذلك إثم وبهتان وزور.
والنص الظني الدلالة: هو اللفظ الوارد في القرآن الكريم الذي يحتمل أكثر من معنى واحد في مجال التأويل، مثل لفظ "المشترك" كالقروء في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين: الطهر والحيض، فتكون دلالة اللفظ على أحد المعنيين ظنية لاقطعية. ومثل لفظ الميتة في قوله تعالى: {حرمت عليك الميتة} يحتمل إرادة الدماء كلها الجامدة ما عدا ميتة البحر، لأن اللفظ عام. وكذا لفظ الدم يحتمل إرادة الدماء كلها الجامدة والسائلة، أو المسفوحة فقط، فيكون اللفظ المشترك أو العام أو المطلق ظني الدلالة، لدلالته على معنى، واحتمال دلالته على معنى آخر، فيكون محل اجتهاد واختلاف، ولاحرج ولا إثم ولاعيب فيه.
وأما النص القطعي للدلالة: فهو اللفظ الوارد في القرآن الذي يتعين فهمه على النحو الوارد، ولايحتمل إلا معنى واحداً، كآيات المواريث والحدود والكفارات، قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة} {والذين يظاهرون من المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}. فهذه نصوص قطعية الدلالة على أنصباء الميراث، وقطع اليد في السرقة، والجلد مئة في الزنا، وثمانين في القذف، وعتق الرقبة في كفارة الظهار أو الصيام أو الإطعام.
واتفق الفقهاء على قواعد معينة في الاستنباط من النص الشرعي، وهي:
أولاً: كل فعل عظمه الله أو مدحه أو أحبه أو وعد به خيراً أو وصفه بالاستقامة أو أقسم به، فهو مشروع، مشترك بين الوجوب والندب. ثانياً: كل فعل طلب الشارع تركه أو ذمه أو لعنه أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو أوعد به، أو هو رجس أو فسق، فهو غير مشروع مشترك بين التحريم والكراهة.
ثالثاً: كل ما أحله الله، أو أذن به، أو رفع الحرج أو الجناح أو الإصر أو الإثم عنه، فهو مباح مأذون فيه شرعاً.
وأما السنة النبوية: فهي واجبة الاتباع بالإجماع كالقرآن الكريم في استنباط الأحكام الشرعية، لكن دلالتها على الأحكام منها القطعي وهو مادلت عليه الأحاديث المتواترة: وهي مارواها عن النبي (ص)، في العصور الثلاثة الأولى، جمع يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، مثل السنة العملية المروية عنه (ص) في الوضوء والصلاة والصوم والحج والزكاة والأذان والإقامة ونحوها من شعائر الدين، ومثل الأحاديث المتواترة، كحديث :"من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وحديث "ويل للأعقاب من النار" وعدد هذه الأحاديث (٣٠٩ أحاديث ).
وبعض الأحاديث دلالتها ظنية وإن كانت متواترة، كما أن الحكم في الأحاديث المروية بطريق الآحاد مظنون، وسنة الآحاد: هي مارواها عن الرسول (ص) أحاد، كواحد أو اثنين أو جمع لم يبلغ حد التواتر. وأكثر الأحاديث آحاد، وتسمى خبر الواحد. ويرى الشيعة أن كل مارواه آل البيت حجة في التشريع، وسنة. وقد يقع الخلاف في الأحكام المستفادة من السنة، وليس في ذلك ضرر، ويعذر العلماء في ما اختفلوا فيه، وأغلب تلك الأحكام متفق عليه من المذاهب، مثل السنة العملية والقولية لبيان كيفية العبادات وضوابط المعاملات، وتخصيص عام القرآن بها كتخصيص آية: {وأحل لكم ماوراء ذلك} بحديث "لاتنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولاعلى ابنة أخيها، ولا على ابنة أختها". ومثل تقييد مطلق موضع قطع يد السارق من الرسغ عند أهل البيت، والأصابع فقط عند الإمامية. وقد تنسخ السنة آية، كحديث "لاوصية لوارث" فإنه نسخ آية الوصية للوارث، وهي: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين}. ولم ير الإمام الشافعي هذا النسخ، وإنما الناسخ آيات المواريث.
وأجاز الإمامية الوصية للوارث ولو بغير إجازة الورثة. وقد تستقل السنة ببيان حكم جديد سكت عنه القرآن، مثل أخبار الزاني المحصن، والحكم بشاهد ويمين، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرجال، وصدقة الفطر، وإيجاب الدية على العاقلة (عصبة القاتل) وتحريم لحوم الحمر الأهلية، وفكاك الأسير ونحو ذلك.
كل هذه نقاط مضيئة بين العلماء، واما الخلاف فيقع في جزئيات أخرى من الأحكام الشرعية بين المذاهب، ولاعيب في ذلك، وإن كان مع الأسف يعتني طلاب العلم بالفروع ويتركون نقاط الاتفاق، فيتصورون الخلاف قبل الوفاق، وتبتعد عن أذهانهم نواحي الالتقاء بين المذاهب، وتحشى الأفكار والعقول والذاكرة بالخلافات، وتنسى مواطن الاتفاق.
وأما مصادر الاجتهاد في ما لانص فيه: فتنحصر عند الإمامية بالعقل أي بدلالته القطعية، وتتفرع عند أهل السنة الى مصادر كثيرة بأسماء متعددة، وهي الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، والعرف، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع، ومذهب الصحابي، ونحو ذلك كالعمل بالأقل، وإجماع أهل المدينة، وإجماع آل البيت.
وهذه المصادر في الواقع ليست أدلة مستقلة، كما حقق علماء السنة، وإنما هي قواعد كلية، وهذا متفق عليه. وحكم العقل المقابل للكتاب والسنة بوصفه دليلاً مستقلاً عنهما على أنه مدرك لاحاكم، مقبول عند الشيعة الإمامية والزيدية.
(واتفقت المذاهب الإسلامية على الأخذ بحكم العقل إذا كان بناء على ما جاء به الشرع من عموميات، ولم يرد نص بالتحليل أو بالتحريم، فإذا كان في شيء مصلحة، ولم يرد نهي عنه، وكان خالياً من الفساد، فهو بحكم العقل مباح، وعكس ذلك إذا كان في شيء مضرة كتعاطي المخدرات، ولم يرد نص بتحريمه، كان بحكم العقل حراماً، لأن الله لا يرضى لعباده الضرر، ولايريد الفساد. )
ويمكن قسمة الاجتهاد بالاتفاق الى قسمين :عقلي وشرعي
أما الاجتهاد العقلي: فهو ما كانت الحجية الثابتة لمصادره عقلية محضة، غير قابلة للجعل الشرعي، كالمستقلات العقلية، وقواعد لزوم دفع الضرر المحتمل، وقبح العقاب بلا بيان، وإباحة الأشياء النافعة، وتحريم الأشياء الضارة الخبيثة.
وأما الاجتهاد الشرعي: فهو ما تحتاج الى جعل حجيته من الحجج الشرعية، ويدخل ضمن هذا القسم: الإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح، والعرف، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، والذرائع وقول الصحابي، ومنه اجتهاد آل البيت.
ومن المتفق عليه، في هذا المجال، بين المذاهب أن الأخذ بالقواعد الشرعية الكلية، مثل المشقة تجلب التيسير، والعادة محكمة، والضرر يزال، واليقين لايزول بالشك، والأمور بمقاصدها، كل ذلك وغيره من القواعد، يحتاج الى ضابط كل قاعدة بما يتفق مع أصالة الأحكام أو النصوص الشرعية الثابتة.
رفع الإثم عن الخطأ في الاجتهاد:
يرى جماهير أهل العلم، من أجل الحرص على مبدأ الوفاق ونبذ روح الخلاف بين المجتهدين، وتشجيعاً على الاجتهاد والإقدام عليه، من غير تهيب ولاتوجس خيفة أو شعور بالقلق: أن كل مجتهد مثاب على اجتهاده، حتى ولو في حال الخطأ غير المقصود، لأنه بذل جهده وأقصى مافي وسعه للوصول الى الصواب، لكنه لم يصادف الحق، بدليل ماثبت في السنة من أحاديث كثيرة، منها مارواه البخاري ومسلم أن النبي (ص) قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد". وذهب بشر المريسي، وابن علية، وأبو بكر الأصم، ونفاة القياس كالظاهرة والإمامية: الى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين، وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو غير كافر ولافاسق. ولايضر هذا الخلاف لأن التأثيم مرجعه الى الله، فإن شاء لام المخطىء وإن شاء لم يفعل".
مجال التخطئة والإنكار:
إن مراعاة الخلاف أمر متفق عليه بين العلماء، والحرص على الوفاق يقتضي عدم التسرع أو المبادرة الى التخطئة والإنكار في الخلافات الفقهية الظنية الناجمة عن النصوص الظنية، ولاقطع فيه، ما لم يكن هناك مخالفة لنص صريح من كتاب وسنة صحيحة صريحة، وإجماع قديم: فإن للاجتهاد آفاقاً واسعة، يعذر فيها المجتهدون إن اختلفوا، قال العلامة ابن رجب الحنبلي، في كتابه النفيس "جامع العلوم والحكم"، "والمنكر الذي يجب إنكاره: ماكان مجمعاً عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لايجب إنكاره على من فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً، واستثنى القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية: وما ضعف فيه الخلاف".
وقال ابن قدامة رحمه الله: "لاينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات".
التوسط في الحكم على المجتهدات:
قد يغالي بعض الناس أو يتخذ موقفاً شاذاً في التعصب لمذهبه، وتخطئة الآخرين، فيرى أن مذهبه هو الحق وغيره باطل، أوهو الصواب بعينه وغيره خطأ صريح، وهذا ناجم عن الغلو في العصبية المذهبية، والمطلوب شرعاً وعقلاً وواقعاً البعد عنها، لأنه لايستطيع مجتهد أن يجزم بأن اجتهاده هو الحق وغيره هو الخطأ المتيقن، لأن ذلك لايعلم به إلا الله تعالى أو رسوله ، ولاسبيل لذلك العلم بعد انقطاع الوحي. ويتطلب الأمر التوسط والاعتدال وعدم التورط في الإفراط والتفريط ، حفاظاً على وحدة العلماء، وابعاداً لهم عن قالة السوء والسفهاء.
فمن الإفراط؛ أن يقول أتباع المذهب :مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، والحق فيها أو الصواب غير متعين، وتلك العبارة المتداولة منشؤها التعصب المذهبي، والتعصب داء يؤدي الى النزاع والشقاق والفرقة، وعلى المسلم أن يحرص على لم الشمل ورأب الصدع، والتسامي فوق الخلافات.
ومن التفريط؛ مايشيع بين الجهلة والعوام من ضرورة توحيد المذاهب، والتخلص منها، واعتبار الخلاف العلمي من الخلاف في الدين والتفرق الى شيع ومذاهب، الذي ذمه الله تعالى.
وهذا ينافي المنطق، فإن رجال القانون وأهل الحكمة والفلسفة كثيراً ما يختلفون، وتعدد آراؤهم ونظرياتهم، ولم يعب أحد ذلك عليهم، فإن الاختلاف في مجال الفكر دليل الحرية والنضج والخصوبة، وليس أمراً معيباً أو مذموماً، وقد اختلف الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان في كثير من أحكام الفروع، وإنما العيب في الاختلاف في الأصول وفي قضايا الأمة الكبرى، ورسم سياستها، وتحديد موقفها من أعدائها، اما الخلاف الداخلي فلا يضر، لأن الشأن في العلماء الإخلاص والتقوى.
الخلاصة
إن نقاط الاتفاق بين المذاهب كثيرة، وهي الأصل العام في الشريعة الإسلامية، ونقاط الاختلاف محدودة، وهي تبع للأصل.
ليس الخلاف عيباً في مجال الفكر والاجتهاد، وإنما هو ظاهرة صحية طيبة تدل على إعطاء العقل أفقاً رحباً، وحرية كاملة.
الخلافات المذهبية، بين المذاهب الإسلامية، ليست خلافات في الجوهر والأصول: وإنما هي خلافات في الجزئيات والفروع.
فليس الخلاف بين أهل السنة والشيعة والإباضية، وفي نطاق كل مذهب من المذاهب الأربعة، أو بين الجعفرية والزيدية، ليس هذا كالخلاف بين طوائف المسيحية مثلاً، من كاثوليك وأرثوذكس وبرتستانت، فهذه الطوائف مختلفة في أصل الاعتقاد كالاختلاف في طبيعة السيد المسيح، عليه السلام، أهي بشرية أو ناسوتية أو إلهية؟
إن دائرة الخلاف تضيق بحق إذا حسنت النية، وتحقق التفاهم، وزال الحقد والكراهية، وانطفأت جذوة التعصب المذهبي المكروه شرعاً وعقلاً وفطرة. وإذا كان الخلاف الاجتهادي بين أهل الاجتهاد من سنة وشيعة محموداً، فإن التعصب والتباعد وزرع الشكوك وهز الثقة، والتورط في التكفير أو التفسيق مذموم وممنوع. والله سبحانه يحاسب كل امريء على ماقدم. والمهم أن يبقى الإسلام والقرآن والشرع الإلهي وسنة النبي المصطفى، (ص) هو دستور الأمة الإسلامية، ومنهج أهل الحق، ودعاة الهدى.