هل الأسرة نموذج مصغر للدولة؟، وهل اذا صلح الجزء بالضرورة سينصلح حال الكل؟ وهل يمكن اعتبار أن التحدي الحقيقي الذي يواجه المجتمعات العربية ليس في إصلاح الأنظمة ولا تغيير النخب الحاكمة ولكن في حسن إدارة العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة؟ وضبط منظومة الواجبات والحقوق داخل هذا الكيان الصغير؟
ثمة أسئلة تشغل المعنيين بمهمة النهوض بالمجتمعات في العالم العربي، وخاصة أولئك الذين يكافحون الظواهر السلبية التي تعصف بالمجتمع من انتشار معدلات التفكك الأسري والعنف وارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الفساد، وغيرها من مظاهر تنخر كالسوس في قوام المجتمع، وتجعل الحديث عن قضايا الاصلاح السياسي ضربا من العبث والتأكيد على انها ليست القضية المحورية التي تفسر حالة الوهن الاجتماعي التي تعاني منها الشعوب العربية الأمر الذي يجعلها غير قادرة على التغيير.. فما هي أسباب ذلك وهل اذا تضافرت الجهود للنهوض بأوضاع الأسرة العربية سيكون ذلك مبشرا بفجر جديد ومستقبل أفضل لأبناءنا؟
يحاول هذا المقال التطرق لثلاثة محاور أساسية:
دور الأسرة في عملية الاصلاح المجتمعي.
التركيز على التقارب في بنية العلاقات بين الأسرة والدولة.
المطالبة بإحياء الأسرة وتوفير المناخ المناسب لقيامها بالأدوار المنوطة بها.
الأسرة و التغيير
تعتبر الأسرة في الرؤية الاسلامية هي وحدة بناء المجتمع، فكلما كانت قوية ومتماسكة وصحيحة نفسيا انعكس ذلك على المجتمع، وأصبح قويا، يتمتع أفراده بالصحة النفسية، وتقل الاضطرابات بين أفراده. كما ترفض فصل الأسرة عن حركة المجتمع المدني واعتبارها –أي الأسرة-ركن أساسي من أركان الحراك الاجتماعي الفاعل نحو التغيير.
وقد أقام الاسلام علاقة وثيقة بين قواعد تشريعه السياسي وبين فطرة التكوين الانساني، وضمن من خلال التشريع تاهيل الأسرة للقيام بوظائف سياسية الى جانب وظيفتها الاجتماعية والانسانية.
فالناظر في الواقع الاجتماعي ببلاد العرب والاسلام يدرك بوضوح درجة التضخم التي آل اليها المجال السياسي على حساب المجالين الاجتماعي والثقافي، ومن ثم تقلص دور الأسرة في تكوين الوعي الاجتماعي وصياغة العلاقات الاجتماعية باستقلال عن توجيه الدولة وعن سلطاتها. وقد أدى تحميل الدولة بالوظائف الثقافية والاجتماعية والادارية الى ثقل مسئوليتها وعجزها عن أداء التزاماتها، مما ضعفها وزاد من تسلطها واستبدادها.
التاريخ يقول أن الأسرة تحملت في ظروف معينة عبء الوظائف الحضارية التي لا تؤديها الدولة، وحتى تعود الأسرة للعب أدوارها الأصيلة بهذا الشكل لابد أن تحكم العلاقات داخلها نموذجا مصغرا للدولة وهو ما طرحته د. هبة رؤوف عزت الأستاذة بكلية العلوم السياسية-جامعة القاهرة في دراستها "المرأة والعمل السياسي رؤية إسلامية"، حيث اعتبرت أن الأسرة في المفهوم الاسلامي تجمع في هيكلها خصائص النظام السياسي الاسلامي في بنائها وطبيعة العلاقات داخلها، والتي تنعكس تجلياتها في عدد من المؤشرات التي تجعل هناك علاقة ارتباطية وطيدة بين شكل واطار العلاقات داخل الأسرة الصغيرة، وشكل واطار العلاقات داخل الأسرة الكبيرة(الدولة).
ملامح التلاقي
الأسرة الممتدة ..
من تلك الملامح التي تجمع بينهما على مستوى البنية؛ تلك المتعلقة بالأسرة الممتدة والتي هي-وفق تعريفات مختلفة- الأسرة التي تقوم على عدة وحدات أسرية يجمعها الإقامة المشتركة و قرابة الدم ، وتتنوع إلى أسرة ممتدة بسيطة تضم الأجداد والزوجين و الأبناء وزوجاتهم ، وأسرة ممتدة مركبة تضم الأجداد والزوجين والأبناء والأبناء وزوجاتهم والأحفاد والأصهار والأعمام، وهي تعتبر وحدة إجتماعية مستمرة لما لا نهاية حيث تتكون من 3 أجيال و أكثر ، وتتسم بمراقبة أنماط سلوك أفراد الأسرة وإلتزامهم بالقيم الثقافية بالمجتمع ،وتعد وحدة اقتصادية متعاونة يرأسها مؤسس الأسرة ، ويكتسب أفرادها الشعور بالأمن بسبب زيادة العلاقات الإجتماعية بين أفراد الأسرة.
وتُدار العلاقة داخلها على قيم بر الوالدين وصلة الرحم وحسن الجيرة، تلك القيم تمثل في الحقيقة دعائم وأسمنت البنيان الأسري، فهي في بنيانها تتميز عن الأسرة النووية في درجة التفاعل والتواصل بين أفرادها، وتقل فيها مظاهر العنف الأسري.
التنشئة الاجتماعية..
ومن الملامح أيضا التي تجمع العلاقات داخل كل من الأسرة والدولة؛ هو الدور الخاص بالتنشئة الاجتماعية والتي تعني بعملية التعلم لتعديل أنماط السلوك للأفراد، الوقت الأكثر خصوبة للتنشئة الاجتماعية هي عادة في المراحل الأولى من الحياة، و خلالها يقوم الفرد بتطوير المهارات و المعرفة و تعلم القواعد اللازمة للعمل داخل ثقافتهم و بيئتهم الاجتماعية. وتشمل التنشئة الاجتماعية أيضا البالغين بالانتقال الى بيئة مختلفة اختلافا كبيرا، حيث يتعين عليهم أن يتعلموا مجموعة جديدة من السلوكيات.
تتأثر التنشئة الاجتماعية في المقام الأول من جانب الأسرة، حيث يتعلم الأطفال منها أولا قواعد المجتمع. و تشمل التأثيرات الهامة الأخرى المدارس، و مجموعات الأقران، و الناس، و المدارس، و وسائل الإعلام، و أماكن العمل، و الحكومة. و إلى أي مدى تتطبق قواعد مجتمع أو مجتمع معين تحدد استعداد المرء للمشاركة مع الآخرين. قواعد التسامح، و المعاملة بالمثل، و الثقة هي "عادات القلب" الهامة، كما وصفها دي توكفيل، في اندماج الفرد في المجتمع.
القوامة..
هي إحدى صفات المؤمنين -رجالاً ونساء- وترتبط بالشهادة على الناس، وتعني القيام على أمر هذا الدين وفق الشرع، والالتزام بالعدل والقسط وهي صفة من صفات الله –سبحانه - التي يجوز من عباده التخلق بها إذ أنه "القيُّوم".
وإذا كانت القوامة على مستوى الأمة هي سمة عامة فإنها مسؤولية تكليفية على الرجل في أسرته في إطار عقد الزواج، وهي في كلا المستويين قرينة التوحيد والعدل.
وقد حدد الإسلام طبيعة سلطة الرجل في الأسرة إذ جعل مفتاحها كلمة "قوَّام" أي القائم على شئون الأسرة، وتقتضي القسط في شئون من أوكل إليه أمرهم، وذلك بخلاف ما إذا كان التعبير عنها بكلمة سلطة أو نحوها، والتي قد يفهم منها حرية التصرف المطلقة، وهو ما يتعارض مع مفهوم الآية الكريمة.
وتخضع سلطة رب الأسرة للعديد من الضوابط والقيود التي تفسح المجال لأهلية الزوجة والأبناء في التصرف في إطار ما هو مشروع ومسموح به إسلاميًا، فرب الأسرة ليس له سلطة على أبنائه الراشدين سوى التوجيه والنصح فقط، وكذلك له سلطة محددة في الإذن بزواج بناته البالغات؛ لأن شخصية أولاده الراشدين البالغين- ذكورًا وإناثًا- شخصية حقوقية كاملة سواء في التعامل الاقتصادي أو الحياة الاجتماعية، كاختيار نوع العمل أو اختيار الزوجة.. وحقوق الأب أدبية تقتضيها الأخلاق الإسلامية.
وإذا أساء الأب استعمال صلاحيات القوامة أو تعسف فيها أو تجاوز صلاحياتها المقررة شرعًا، فإن من حق ولي الأمر داخل المجتمع –ممثلاً في السلطة العامة أو القضاء- التدخل للحد من تصرفاته غير المشروعة، لحماية الزوجة والأبناء، ولكن تدخل ولي الأمر يأتي بعد أن تكون المؤسسات الوسيطة في المجتمع ( عائلة ممتدة – مؤسسات أهلية … ) قد استنفدت كل السبل لمعالجة هذه الانحراف.
الشورى..
لا يكتمل فهم أبعاد مفهوم القوامة في الرؤية الإسلامية إلا في ضوء إدراك أهمية الشورى كقيمة أساسية في العلاقات داخل الأسرة المسلمة؛ فالشورى ليست خاصة بالمساحة السياسية فقط، ولا هي سمة من سمات الجماعة المؤمنة فحسب، بل هي أيضاً منهج التعامل داخل الأسرة.
وإذا كان الحديث عن الشورى في إطار الأسرة قد ورد في فطام الطفل مع انفصال الزوجين، وهو حق المطلقة في الشورى والتراضي والتفاهم على ما فيه مصلحة الطفل، حيث إن انفراد أحدهما بالأمر دون الآخر يعد باطلاً، فأولى أن يكون ذلك من حق الزوجة القائمة في البيت على رعاية جميع شئونه؛ فالقاعدة في نظام المنزل الإسلامي هي التزام كل من الزوجين بالعمل بإرشاد الشرع فيما هو منصوص عليه، والتشاور والتراضي في غير المنصوص عليه ومنع الضرر والضرار بينهما، وعدم تكليف أحدهما بما ليس في وسعه.
القوامة إذاً لا تعني إدارة البيت، فالإدارة شركة بين الرجل والمرأة وحتى الأطفال - كل منهم يقوم بنصيبه في الإدارة - وتدخل الرغبات المعقولة لكل منهم في شأن الإدارة، والإدارة شورى داخل هذه البنية الاجتماعية الصغيرة، ولا ينبغي أن يستبد طرف بالأمر كله، بل تؤخذ آراء كل الأطراف في الاعتبار في حدود الشرع، وتكون القوامة هي الكلمة الفاصلة التي يحتاجها البيت عند نشوب خلاف لا ينهيه إلا كلمة فصل.
وعلى ذلك تكون رئاسة الأسرة رئاسة شورية لا استبدادية، وتشبه إلى حد كبير سلطة الإمامة أو الخلافة على مستوى الدولة، ويتحمل كل عضو في الأسرة مسئوليته مصداقًا للحديث الشريف: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمام الأعظم الذي على الناس راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
عودة الاسرة
يعد تقوية بنيان الأسرة من العوامل الأساسية في نهضة المجتمعات، ولعل تقوية العلاقات داخل الأسرة وتكريس مفاهيم العدالة هي أحد الضرورات لانعكاس هذا بشكل إيجابي على المجتمع .
و من أبرز النتائج التي ظهرت نتيجة تهميش دور الأسرة في تشكيل الوعي الفردي والجماعي للأمة، هو غياب وظيفتها كوحدة منتجة في إطار نظام إجتماعي تضامني، تلى ذلك فقدان الأسرة لدورها في التنشئة الاجتماعية وتولى هذا الدور المدارس والمؤسسات التعليمية ثم دورها في الرعاية الصحية ورعاية المسنين، حيث تولى ذلك المؤسسات الصحية المتطورة، وحتى دورها في التوجيه النفسي حيث تولى ذلك الخبراء النفسيون، وكذلك الأدوار الروتينية كالطبخ وتنظيف الملابس والذي تولته وكالات خاصة.
وسرعان ما وجدت الأسرة نفسها متهمة بتكريس النزعة الفردية مقابل قيمة التعاون والعمل الجماعي، بل ومتهمة بأنها غير قادرة على توفير الرعاية الثقافية والصحية والنفسية للطفل. وعلى أثر ذلك ظهرت الدعوات المختلفة لنقل وظائف الأسرة المختلفة للمؤسسات المتخصصة. مما كان له أكبر الأثر على شكل العلاقات التي تربط أفراد الأسرة، فتكرست التعاقدية مقابل التراحمية، والمنفعة مقابل الأخلاق، والعلاقات الاجتماعية الى علاقات سلعية. ومن ثم تم إعلان "موت الأسرة" كما قال ديفيد كوبر في كتابه الذي يحمل نفس الأسم.
ولكن رغم تعمد استبعاد دور الأسرة من قبل الدولة لتقوية أعمدتها لم تقم الدولة بالدور المنوط بها، فالمؤشرات تقول بأن أوضاع التعليم تدنت، وارتفعت معدلات الجريمة والادمان وتدهورت القيم وانتشرت الأمراض النفسية وظهرت مشكلات كبار السن والمشردين.
لهذا ولكي تقوم الأسرة بادوراها المنوطة بها على مؤسسات المجتمع المختلفة دعمها وتقوية أواصراها من خلال التأكيد على طبيعة الأدوار داخلها، والاهتمام بقضية التنشئة الاجتماعية للصغار والذين هم ركائز المستقبل فكلما كان هناك اهتمام بتكريس المفاهيم الأيجابية وحسن إدارة العلاقات بينهم سيكون هذا مبشر بربح المستقبل وتعويضا عن خسارتنا للحاضر.