ركائز الإيمان - آثار الشرك.
إذا كان التوحيد كما رأينا هو ما فطر الله عليه الإنسان السويّ، وهو الذي يستقيم به الكون وحياة الإنسان، فإن الشرك الذي يقع فيه الإنسان له آثاره الوبيلة في دنياه وآخرته، سواء أكان الواقع فيه فرداً أم جماعة.
1) وأول آثار الشرك إطفاء نور الفطرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يُمجِّسانه ".
إن الله سبحانه وتعالى حين خلق آدم استخرج ذريته من صلبه أمثال الذرّ، فأخذ عليهم العهد والميثاق ألا يشركوا به شيئاً: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) [الأعراف: 172].
وعلى هذا فإن الشرك نقضٌ للميثاق الذي أخذه الله على البشر وهم في عالم الذر، كما أنه انحراف عن الغاية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
إن الإنسان يستمد من حقيقة التوحيد إشراقته ونوره وسداد أمره، فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. وتصبح حاله وأعماله معتمة مظلمة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: 39، 40].
2) ومن آثاره القضاء على منازع النفس السامية:
فالنفس المتعلقة بالله المتطلعة إلى رضاه لا تستغرقها شهوات الحس ولا تنصرف بكليتها إلى متاع الأرض القريب، إنما تتطلع دائماً إلى المثل العليا والقيم الرفيعة، وإلى الترفع عن الدنس في كل صوره وأشكاله، سواء كان فاحشة من الفواحش التي حرّمها الله، أو ظلماً يقع على الناس، أو موقفاً خسيساً يقفه الإنسان من أجل شهوة رخيصة أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا.
ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشِّيها الشرك، فإن النفس تنحطّ فتشغلها الأرض. يشغلها المتاع الزائل فتتكالب عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها. ويكون جهادها صراعاً خسيساً على هذا المتاع الزائل يتقاتل من أجله الأفراد والدول والشعوب.. وتصبح الحياة البشرية محكومة بقانون الغاب، القوي ياكل الضعيف، والغلبة للقوة لا لصاحب الحق.. وهو الأمر الذي نراه سائداً في الجاهلية المعاصرة في كل منحى من مناحي الحياة. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31].
3) ومن آثاره القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية الذليلة:
إن العزة الحقيقة هي التي تُسْتَمدّ من الإيمان بالله الواحد: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8].
فالمؤمن على يقين من تلك الكلمة التي يردِّدها في كل صلاة: الله أكبر.. الله أكبر من كل شيء ومن كل أحد. ومن ثم يحسّ المؤمن الذي تعلق قلبه بالله أنه عزيز بتلك القوة المستمدة من العبودية الحقة لله الحق، فهو الإله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت، المالك للأمر كله بلا شريك.
ويأتي اليوم الذي يقفون فيه موقف الخزي الأكبر أما العزيز الجبار: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205 - 207].
4) ومن آثاره تمزيق وحدة النفس البشرية:
فالله سبحانه وتعالى فطر هذه النفس بحكمته، وأنزل الكتاب الذي تعمل بمقتضاه هذه النفس فتكون على فطرتها السوية كما خلقها الله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].
والدين القيِّم هو عبادة الله وحده بلا شريك: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [هود: 50].
وهي الكلمة التي قالها نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعاً.
ويعلم الله سبحانه وتعالى أنه حين يعمل الإنسان بمقتضى كلمة التوحيد هذه فإن نفسه تكون " في أحسن تقويم " وتكون على استوائها، لأنها تتجه كلها وجهة واحدة في جميع تصرفاتها.
فإذاً هو في كل نشاط حياته متجه إلى الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام: 163].
عند ذلك تطمئن النفس وتستقر: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
5) ومن نتائجه إحباط العمل:
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر: 65].
والحبوط مأخوذ من " حبطت الناقة " إذا انتفخ بطنها وماتت نتيجة تناولها طعاماً سامّا، ويراد به ضياع نتيجة العمل وانقلابه بالوبال على صاحبه.
والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أوحى إليك كما أوحى إلى النبيين من قبلك أن الشرك يحبط العمل ويفسده، ويئول في النهاية إلى الخسران، الخسران الأكبر في الآخرة بدخول النار والعياذ بالله.
ولكنه لا يقتصر على الدار الآخرة، فنحن نرى آثار ذلك الخسران في الحياة الدنيا بداية واضحة في الجاهلية المعاصرة، كما أشرنا في الفقرة السابقة.
إن الناس في الجاهلية المعاصرة قد انتفخوا من كثرة ما أعطاهم الله استدراجاً عن طريق التقدم العلمي من سيارات وثلاجات وطائرات وصواريخ وقنابل ذرية ونووية وأموال وخيرات من كل الأنواع.
6) ومن آثار الشرك الأكبر خلود صاحبه في النار:
قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا، إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا، لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) [النساء: 116 - 121].
وأي شيء يمكن أن يكون أفظع من ذلك وأبشع؟
إن الحريق هو أفظع ما يتعرض له الإنسان في الحياة الدنيا لأنه شيء لا يطاق.. شيء لا تستطيع احتماله الأعصاب. ومع ذلك فما أهونه وأيسره بجانب حريق الآخرة.
إنه - مهما اشتد ومهما امتد - فلن يتجاوز دقائق قد تمتد إلى أيام.. ثم بعد ذلك إما أن يشفى صاحبه وإما أن يموت. فكيف إذا كان لا يشفى قط ومع ذلك لا يموت: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء: 56].
فما أغفل المشرك الذي يهرب جهده من لذعة عابرة في الدنيا، ثم يركض بقدميه ركضاً ليلقي بنفسه في الحريق الذي لا يزول أبداً ولا يستطيع أن يخرج منه بعد أن يدخل فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة: 165 - 167].