ايفازوفسكي: شاعر البحر
لم يكن ايفان ايفازوفسكي مجّرد رسّام محترف للمناظر البحريّة، بل كان أيضا يعرف البحر وكان يحبّه بصدق. وعلى الرغم من أنه تحوّل في بعض الأحيان إلى أشكال فنّية أخرى كالمناظر الطبيعية والبورتريه، إلا أنه كان يفعل ذلك لفترة وجيزة ثم ما يلبث أن يعود إلى النوع الذي اختاره والذي ظلّ مخلصا له طوال حياته.
كان نجاح ايفازوفسكي مستحقّا بجدارة، إذ لا يوجد رسّام آخر تمكّن من الإمساك بالمزاج المتغيّّر للبحر بمثل هذا التألّق والإقناع والسهولة.
عندما بدأ ايفازوفسكي مسيرته المهنيّة، كان الفنّ الروسي لا يزال يهيمن عليه الاتجاه الرومانسيّ. وكان المزاج الرومانسيّ هو الذي يحدّد معايير رسم المناظر الطبيعية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن غير المثير للدهشة أن نكتشف وجود عناصر رومانسية، سواءً في أعمال ايفازوفسكي المبكّرة أو في معظم أعماله اللاحقة. فنجده مرارا وتكرارا يرسم المناظر التي تصوّر حطام السفن والعواصف والمعارك البحرية المحتدمة.
تابع ايفازوفسكي السير على تقاليد رسّامي المناظر الطبيعية الروس الكبار في بدايات القرن التاسع عشر دون أن يلجأ إلى التقليد الحرفيّ. وقد خلق مدرسة جديدة في الرسم، ما جعله يفرض بصمته الخاصّة على رسم حياة البحر والتي تأثّرت بها أجيال عديدة لاحقة.
وبالإضافة إلى عمله كفنّان، كان ايفازوفسكي شخصيّة عامّة ذات اهتمامات متنوّعة. فقد كان يولي اهتماما خاصّا بأحداث العالم، وكان متعاطفا بعمق مع البلدان الصغيرة التي تكافح من أجل استقلالها. وفي الوقت نفسه كان يعمل بتفانٍ من أجل خير بلده الأم، وفعل الكثير من اجل مساعدة الفنّانين الشباب.
ولد ايفان ايفازوفسكي في يوليو من عام 1817 في مدينة فيودوسيا القديمة بشبه جزيرة القرم. والده، وهو من أصل أرمني، كان قد استقرّ هناك في بدايات القرن. كان الأب رجلا جيّد التعليم نسبيّا وكان يعرف العديد من اللغات الشرقية. ولكونه تاجرا، لعب دورا هامّا في الحياة التجارية للمدينة. غير أن الأب خسر تجارته بسبب وباء الطاعون الذي ضرب فيودوسيا في عام 1812. وعندما ولد ايفان، كانت العائلة تمرّ بأوقات عصيبة. وهناك بعض الأدلّة التي تشير إلى أن الفقر اضطرّ الصغير ايفازوفسكي للعمل في مقاهي فيودوسيا، حيث تعلّم هناك بعض كلمات من لغات شتّى كالإيطالية واليونانية والتركية والأرمنية والتتارية.
وقد تشرّب عقل الصبيّ كلّ المشاهد والأصوات الملوّنة التي سمعها ورآها في فيودوسيا ذات الأعراق والثقافات المختلطة. كما كان يتمتّع بأذن موسيقية حسّاسة. وسرعان ما تعلّم عزف الألحان الشعبية على آلة الكمان. وفي وقت لاحق، ذكر ايفازوفسكي بعض تلك الألحان لصديقه المؤلّف الموسيقيّ ميخائيل غلينكا، الذي بادر إلى توظيفها في مؤلّفاته.
ولكن كان الرسم هو الذي استولى على خيال الصبيّ الشابّ. ولأنه كان يفتقر إلى موادّ أخرى، فقد كان يرسم بالفحم على الجدران في فيودوسيا. وجذبت هذه الرسومات انتباه حاكم البلدة الذي ساعد ايفازوفسكي على دخول مدرسة سيمفيروبول الثانوية، ثمّ على دخول أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنون في عام 1833.
وقد تزامنت فترة دراسة ايفازوفسكي في سانت بطرسبورغ مع مرحلة متناقضة ومرتبكة من التاريخ الروسيّ. فمن ناحية، كانت تلك فترة الحكم الاستبدادي الصارم والركود السياسيّ تحت حكم القيصر نيكولا الأوّل. ومن ناحية أخرى، شهدت تلك الفترة ازدهارا كبيرا للثقافة الروسية في أعقاب ما عُرف بحرب نابليون عام 1812. كان هذا عصر بوشكين وغوغول وليرمونتوف وبيلينسكي وغلينكا وبريولوف. وداخل الأكاديمية، كانت قوانين الكلاسيكية المرتبطة ارتباطا وثيقا بأفكار الواجب المدنيّ والمشاعر الوطنية ما تزال قويّة. غير أن سمات الرومانسية الجديدة كانت أيضا ملحوظة.
النجاح الكبير الذي حقّقته لوحة كارل بريولوف آخر أيّام بومبي ترك انطباعا دائما على ايفازوفسكي. وقد جسّدت تلك اللوحة انتصار المدرسة الرومانسية في الفنّ الروسي، كما لعبت دورا هامّا في تحفيز التطوّر الإبداعي لـ ايفازوفسكي. وعلاوة على ذلك، فإن ايفازوفسكي نشأ على الروح الرومانسية لأستاذه في الأكاديمية فوروبيوف.
كان الفنّ الروسيّ في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر يجمع بين الرومانسية والواقعية. وكثيرا ما كان هذان الملمحان يجدان تعبيرا لهما في أعمال ايفازوفسكي. وكان هذا واضحا، بشكل خاصّ، في رسم المناظر الطبيعية، وهي شكل من أشكال الفنّ الواقعي الذي استمرّ يحمل ملامح رومانسية لفترة طويلة. وقد اكتسب ايفازوفسكي رؤية رومانسية في سنوات دراسته وحافظ عليها في مرحلة النضج. وظلّ حتى النهاية تابعا مخلصا للرومانسية، رغم أن هذا لم يمنعه من استنباط شكله الخاصّ من الواقعية.
في عام 1836، اشترك ايفازوفسكي في تمارين أسطول بحر البلطيق بناءً على نصيحة من أستاذ مادّة رسم المعارك في الأكاديمية. كان الأستاذ يأمل في أن يسير الفنّان الشابّ على خطاه ويصبح متخصّصا في رسم معارك البحر. وفي خريف ذلك العام، ظهرت أعمال ايفازوفسكي في معرض الأكاديمية. وقد أظهرت تلك الرسومات علامات على الموهبة المتميّزة والإتقان الرائع لرسّام كان ما يزال وقتها في عامه الثاني من التدريب.
جريدة "آرت غازيت" كتبت معلّقة على تلك الصور: إن لوحات ايفازوفسكي تكشف ولا شكّ أن موهبته ستقوده إلى ما هو أبعد وأن دراسته للطبيعة ستفتح له المزيد من الكنوز".
إحدى صور ايفازوفسكي الأولى اسمها الطرق الكبيرة في كرونستات . ورغم أن مقدّمة هذه الصورة، مع شخصيّاتها البشرية المرسومة بسذاجة، تذكّر بالمعلّمين الهولنديّين القدماء، إلا أن المنظور فيه اتساع وعمق، مع منظر الغيوم التي تتراجع عن بعد. الأمواج تبدو ثابتة والحركة أقلّ. ومع ذلك فإن ايفازوفسكي تمكّن من الإمساك، بطريقة أو بأخرى، بالشخصيّة الخاصّة لبحر البلطيق البارد.
في أكتوبر من عام 1837، أنهى ايفازوفسكي دراسته في الأكاديمية وحصل على الميدالية الذهبيّة الكبرى التي منحته الحقّ في الحصول على دورة دراسية طويلة في الخارج على حساب الأكاديمية. وأخذاً في الاعتبار موهبته الاستثنائية، فقد اتخذ مجلس الأكاديمية قرارا غير عاديّ قضى بإرساله أوّلا إلى شبه جزيرة القرم لمدّة عامين كي يتقن مهاراته في النوع الذي اختاره، أي رسم مناظر للمدن الساحلية. ثم بعد هذا يمكن إرساله إلى إيطاليا لمواصلة دراسته فيها.
وعندما عاد إلى فيودوسيا، لم يضيّع ايفازوفسكي وقتا وشرع في العمل على الفور. تفانيه أدهش دائما أولئك الذين عرفوه. وسرعان ما أنتج سلسلة كاملة من المناظر الطبيعية عن جزيرة القرم، وكان حبّه لطبيعة وطنه واضحا في كلّ صورة.
وأصبح "رسّام الطبيعة القادم من جنوب روسيا" موضوعا لأحاديث الناس في القصور وفي الأماكن العامّة. كما أجمعت الصحف بصوت عال على أن لا احد يتفوّق على ايفازوفسكي في تصويره الضوء والهواء والماء بشكل حقيقيّ ومقنع.
مفهوم الضوء، على وجه الخصوص، كان مهمّا جدّا بالنسبة لـ ايفازوفسكي. والمُشاهِد المدرك سيلاحظ انه بينما يرسم الغيوم والسماء، فإن تركيزه كان دائما على الضوء الذي يضفي على مناظره إحساسا عاطفيا وحالما. في لوحات ايفازوفسكي، الضوء هو الرمز الخالد للحياة ورمز الأمل والإيمان.
البابا غريغوري السادس عشر اشترى صورته "خلق العالم" وأمر بتعليقها في الفاتيكان، وهو المكان الذي لا توضع فيه سوى صور الرسّامين الأعظم في العالم. هذه اللوحة، أي خلق العالم، لا مثيل لها ولا تشبه أيّ شيء آخر رآه الناس من قبل، بل لقد قيل وقتها إنها معجزة من معجزات الفنّ.
الفنّانون البارزون في ذلك الوقت اعترفوا بموهبة وإتقان ايفازوفسكي. وخلال رحلة له إلى إيطاليا عام 1842، أعجب رسّام المناظر الطبيعية الانجليزي الشهير جوزيف وليام تيرنر بلوحة "خليج نابولي في ليلة مقمرة"، لدرجة انه كتب قصيدة بالايطالية عن اللوحة وأهداها إلى ايفازوفسكي.
وفي حين كان فنّانون كبار يمتدحون الرسّام، بدأ آخرون بتقليده. وفي إيطاليا التي لم تكن تعرف حتى ذلك الحين رسم المناظر البحريّة، بدأ هذا النوع من الرسم يشيع وينتشر شيئا فشيئا.
وقد تمتّع ايفازوفسكي بنفس هذا القدر من النجاح عندما أحضر لوحاته إلى باريس في عام 1842. مجلس أكاديمية باريس منحه ميدالية ذهبية، ثمّ في عام 1857، مُنح وسام جوقة الشرف الذي نادرا ما يُمنح لرسّامين أجانب.
للوهلة الأولى، لا يوجد شيء غير عاديّ في لوحة "منظر للبحر في ضوء القمر". القمر المكتمل يخترق غطاء من الغيوم الخفيفة بينما تلوح جبال على البعد. انعكاس ضوء القمر يمتدّ مثل طريق متعرّج. لكنّ كلّ هذا مرسوم بطريقة جديدة. فحركة الأمواج أكثر كثافة. وهناك شعور يفرض نفسه بالفراغ وبجمال ليالي الجنوب الذي نقله الرسّام ببراعة.
غير أن أعظم إنجاز لـ ايفازوفسكي في هذه الفترة هو لوحته البحر الأسود . هنا خلق الفنّان صورة عامّة لعناصر البحر في تجليّاتها المتغيّرة باستمرار. الأفق البعيد هادئ. لكنْ في المقدّمة يصبح البحر أكثر اضطرابا، بينما الأمواج تكسر السطح الأملس للماء. حركة الأمواج المهتزّة واتّساع البحر رُسما بقوّة استثنائية.
حتى الآن، يبدو الماء بحالة غضب خفيفة. لكنّ حركته مخيفة ولا هوادة فيها. الزرقة الجميلة للسماء يغالبها جدار رماديّ كثيف من السحب. والظلال الملوّنة تظهر على الماء مع بقع وأضواء مرقّطة، بعضها أزرق وبعضها الآخر فيروزيّ أو أخضر نقيّ.
الرسّام ايفان كرامسكوي، الذي كان بنفس الوقت ناقدا مميّزا وحسّاسا، كتب عن هذه الصورة يقول: ليس بوسعك أن ترى هنا غير السماء والماء. لكنّ الماء محيط لا حدود له. ليس هائجا، ولكنه غير هادئ. كما انه لانهائي، تماما كالسماء التي فوقه. هذه هي إحدى أقوى الصور التي رأيتها في حياتي".