العلاقة بين أطوار نمو الدماغ ومراحل النمو العقلي وآثارها على عمليّة التعلّم والتعليم.
تجمع أبحاث الدماغ على أنّ دماغ الإنسان يبدأ في التطور بعد الحمل بثلاثة أسابيع حيت تتطور آلاف الخلايا الجديدة في كل دقيقة مصحوبة بنمو سريع في الفترة من ثمانية أسابيع إلى ثلاثة عشر أسبوعا. يزن الدماغ عند الولادة ما يقرب من 370 غراما. ويتعاقب النمو تبعا لتسلسل منطقي. فالأجزاء التي تنظم العمليات الأساسية كالوعي والدورة الدموية والتنفس مثلا تكون في كامل عملها ووطيفتها عند الولادة، وذلك لأنّها ضرورية لبقاء الطفل على قيد الحياة. أمّا الأجزاء التي تنظم الوظائف الأقل أهمية كالحركة واللغة مثلا فإنّها تكتمل بعد الولادة.
يضيف الدماغ ما يقرب من 370 غراما أثناء السنة الأولى بعد الولادة. يطرأ الجزء الأكبر من هذه الزيادة على المخيخ الواقع في مؤخرة الرأس. يعتبر المخيخ الطيار الآلي للدماغ. فهو الذي ينسق أعمال المجموعات العضلية المتعلقة بالأعمال المعقدة التي يقوم بها الإنسان بدون توجيه واعي كالأكل مثلا. فكلما زاد المخيخ نموا زادت مقدرة الطفل على تعلم أشياء أخرى كالزحف والمشي ومن ثمّ الجري (Sylwester, 1982)
أمّا الجزء الثالث والأخير من وزن الدماغ فيتطور ما بين السنة الثانية والسنة السادسة عشرة ليصبح وزنه حوالي (1300) غرام تقريبا. هذا النوع من النمو التدريجي ينقل الرضيع الصغير من حالة اعتماده الأولى وعدم قدرته على الكلام إلى حالة الاستقلال والعقلانية والقدرة على الاتصال كما يفعل الكبير تماما. ولقد تجاهل كثير من الباحثينالجزء الأخير في الزيادة ولم يولوه الاهتمام الكافي وذلك لسببين: أولاهما، لأنّ الدماغ يتوقف عن إنتاج خلايا عصبية جديدة وتبدأ الوحدات الرئيسة في الدماغ في التطور بعد السنة الثانية عشرة من عمر الطفل. ثانيهما، هو أنّ هؤلاء الباحثين لم يأخذوا في اعتبارهم إمتداد نمو جزء كبير من الدماغ (490) غراما على مدى ستة عشرة سنة (Sylwester, 1982).
لكن إبستين Epstein (1978) اعتقد أنّ نموا مقداره (490) غراما لا يمكن أن يكون مسألة غير منطقية. ممّا حدا به إلى التحقق من ذلك في مجمل أبحاثه الخاصة بنمو وتطور الدماغ والتي كشفت عن أهميتها في عملية التعلم والتعليم.
هذه الدراسة ستحاول إلقاء الضوء على نظرية نمو وتطور الدماغ المرحلي (أي على أطوار وفترات) Growth Spurts كما تعرض لها إيبستين Epstein، وكذلك ستتطرق إلى علاقة هذا النمو المرحلي بالنمو العقلي (الإدراكي) Cognitive Development كما تعرض له جان بياجيه Jean Piaget وأخيرا ستحاول استنباط بعض آثار ونتائج ذلك على عملية التعلم والتعليم.
أطوار نمو الدماغ
إن أطوار نمو الدماغ حقيقة علمية ثابتة كما هي حقيقة مراحل النمو العقلي كما عرفها بياجية وأتباعه. لقد توصل إيبستين Epstein (1974) ،عند دراسته للأبحاث التي عنيت بوزن وحجم الدماغ ومحيط الرأس، إلى أن نمو الدماغ إنما يتم على فترات زمنية (أطوار مفاجئة) يمتد كل طور إلى ستة شهور. هذه الأطوار تقع بين الفترات الزمنية التالية:
ما بين الشهر الثالث والعاشر من عمر الطفل
ما بين السنة الثانية والرابعة من عمر الطفل
ما بين السنة العاشرة والثانية عشرة من عمر الطفل
ما بين السنة الرابعة عشرة والسادسة عشرة من عمر الطفل
يتبع كل طور نمو دائما فترة استقرار وركود نسبي في نمو الدماغ أي فترة استرخاء حيث يكون النمو فيها بطيئا ولذلك لإتاحة المجال للتكامل ما بين نمو الدماغ والنمو العقلي
ولعلمنا أن الدماغ يتوقف عن تكوين خلايا جديدة بعد 18 شهرا تقريبا منذ الولادة، فالسؤال هو أين تكون الزيادة أو النمو في الدماغ؟ من
النتائج المستخلصة من الدراسات والأبحاث البيولوجية ندرك أن الزيادة في وزن الدماغ بعد الشهر الثامن عشر من الولادة تعكس تغيرات في الخلايا نفسها وخاصة في البروتين وفي حامض الريبونكليكي RNA وفي الدهنيات وكذلك في الماء أيضا. تزداد هذه المواد نتيجة نمو الخلايا المتمثل في ازدياد التفرعات في المحاور العصبية وفي الشعيرات الهيولية Dendrites وكذلك في المادة العازلة التي تنمو على المحاور العصبية والتي يطلق عليها الغمد النخاعي Myelin Sheath . فمثل هذا النمو (الغمد النخاعي) يزيد من فاعلية نقل الرسائل العصبية، بينما تزيد المخ وتفرعات الخلايا من تغيير التعقيدات الشبكية العصبية لتساعد على زيادة تعقيد المهارات والوظائف العقلية (Epstein, 1980)
إن محيط الرأس (الحمجمة) دليل آخر على نمو وتطور الدماغ. يتم قياس محيط الرأس من أعلى الأذنين تماما. إن أية زيادة في حجم الدماغ، من الطبيعي، أن تصب في زيادة أبعاد الجمجمة. قام وينيك وروسو Winick and Rosso (1969) بقياس وزن الدماغ ومحيط الرأس أي الجمجمة لضحايا حوادث. كانت النتيجة انهما وجدا علاقة سببية بين وزن الدماغ وحجم ومحيط الجمجمة. وبالتالي يمكن استخدام محيط الجمجمة كمؤشر لما يحدث في وزن الدماغ.
إن الإنتكاسات التي تطرأ على تطور ونمو الدماغ بعد الولادة تتمثل في سوء التغذية والحرمان البيئي. إن سوء التغذية يتسبب في نقص عدد الخلايا العصبية وبالتالي نقص في التعقيد الشبكي لهذه الخلايا. أما الحرمان البيئي (مثل فقدان الخبرات) فهو سبب هام من أسباب الأداء المتواضع لدى كثير من الأطفال المحرومين من التنوع البيئي الغني بالتجارب والخبرات العقلية والتعليمية. من هنا تأتي أهمية التجارب التي يمر بها الأطفال أثناء التطور العقلي. إن دور التجربة التعليمية هو إنتقاء واختيار شبكات عصبية لها جذور وراثية. فإذا لم تتوفر التجربة التي يحتاج إليها مثل هذا البناء العصبي فلربما تتسبب في فقدان، وإلى الأبد، الوظائف الناتجة عن الشبكات العصبية المفقودة. ومن المحتمل أن تحل شبكة عصبية أخرى مكان الشبكة المفقودة أثناء تطور الدماغ لأداء الوظيفة المفقودة ولكنها تكون ذات استراتيجية ثانوية لييس لها تأثير قوي. وبهذه الطريقة نستطيع فهم دور التجربة والبيئة في تشكيل معارف وعقول الأطفال وكذلك ندرك مدى العواقب الوخيمة من جرّاء فقدان التجربة أو فقدان التوازن في بدايات العمر ما بين الطفل والبيئة.
إن تحليل المعلومات عن طريق ملاحظة الزيادة الزمنية (أي كل سنتين) كما أوضحا إبستين Epstein (1980)، تشير إلى أن لنمو وتطور الدماغ وجهين: الأول، يظهر زيادة وزن الدماغ المتعلق بزيادة وزن الجسم والثاني، يظهر الزيادة على شكل أطوار حيث يتراوح مقدار الزيادة بنسبة 5-10% من وزن الجسم أثناء الأطوار 2-4 سنوات، 6-8 سنوات، 10-12 سنة، و 14-16 سنة. ومما هو جدير بالذكر ايضا أن مقدار النمو في الطور الواقع في فترة 10-12 سنة يكون أكبر بكثير عند الإناث منه عند الذكور حيث تبلغ الزيادة عند الإناث ثلاثة أضعاف الزيادة عند الذكور. وتنعكس الآية في طور النمو الممتد ما بين 14-16 سنة حيث يكون مقدار النمو أكبر بكثير عند الذكور (Sylwester, 1982) .