بيوت بغداد الأصيلة هندسة فذة تراعي العوامل المناخية
بدعوة من «حلقة الفن الإسلامي» في كلية الدراسات الشرقية والافريقية (سواس) في جامعة لندن، ألقى المعماري العراقي الدكتور صبحي العزاوي محاضرة معززة بالشرائح الملونة (سلايدات) تحت عنوان «الذوقيات البيئية للعمارة السكنية الاصيلة في المجتمعات الاسلامية»، استعرض فيها المميزات المناخية والبيئية الرئيسية لنماذج من بيوت تراثية عربية واسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة وفاس واصفهان.
ركز الدكتور العزاوي في الجزء الاكبر من محاضرته على القياسات العلمية الميدانية والتحليلات المنطقية والنتائج المترتبة عليها لتقييم البيوت العربية التراثية الاصيلة في بغداد التي كانت قد بنيت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي الربع الاول من القرن العشرين.
استهدفت تلك القياسات الميدانية معرفة المناخات المحلية السائدة في محلاتها وحاراتها ومعرفة البيئة الحرارية داخل بيوتها والناتجة من تصميمها المعماري والعمراني، وتضمنت درجات الحرارة والرطوبة النسبية وسرعة الريح والهواء ودرجة حرارة السطوح الافقية (سطوح البيوت وارضيات الفناء والاواوين والطارمات والاروقة والغرف وسقوفها)، والسطوح الشاقولية (الجدران الخارجية والداخلية والمطلة على ساحة الدار). وقيست درجات حرارة تلك السطوح في الشمس والظل وهي تتألف من مواد بنائية مختلفة (طابوق، بلاط، جص، خشب، زجاج، الخ). واستمرت القياسات في كل بيت مدة اسبوع كامل خلال فصل الصيف واسبوعا آخر في فصل الشتاء، وفي كل يوم تمت ستة قياسات في كل ثلاث ساعات ابتداء من السادسة صباحا وحتى التاسعة مساء وكل واحدة منها كانت تستغرق ساعتين كاملتين.
قبل البدء في مناقشة تقييم هذه البيوت التراثية مناخيا وبيئيا، لا بد من وصف وجيز للبيت البغدادي الاصيل معماريا وتخطيطيا وهيئة وشكلا ومقطعا وواجهة واستعمالا. يتألف البيت البغدادي التراثي الاصيل من فنائه الوسطي الذي يعرف باسم الحوش، وتحيط به غرف البيت وطارماته وطلاراته واروقته وغرفه ومرافقه الصحية من جهتين او ثلاث جهات او اربع حسب سعة البيت وامكانية ساكنيه المادية ومركزهم الاجتماعي. ومن الخارج يتكون البيت البغدادي من طابقين، طابق ارضي يكون اقل ارتفاعا من الطابق الاول، وذلك لحمايته من اشعة الشمس المحرقة صيفا. يتراوح ارتفاعه بين ثلاثة امتار وثلاثة امتار ونصف المتر، اما ارتفاع الطابق الاول فيكون ما بين ثلاثة امتار ونصف المتر الى اربعة امتار ونصف المتر وحتى خمسة امتار في البيوت الكبيرة للعائلات الغنية، وهذا الارتفاع ناتج عن سعة الغرف الرئيسية. وبهذا يمكن وضع طابق متوسط في الزوايا الداخلية يطل على فناء الدار وتسمى كل غرفة في كل ركن وزاوية من زوايا فناء الدار وقطعة ارضه بالكاشفكان وتستعمل كغرف اضافية شتاء للنوم او لخزن التحفيات او الحاجيات المنزلية.
ويتميز البيت البغدادي بسطوحه المتوزعة حول فتحة فناء الدار في الطابق الثاني والتي تستعمل للنوم اثناء الليل طوال موسم الصيف.
وهناك ميزة فريدة في البيت البغدادي هي احتواؤه على سرداب وشبه سرداب واحد او اثنين او ثلاثة تكون حول اضلع فناء الدار التي لا تتعرض لاشعة الشمس صيفا، وتكون ارضيتها منخفضة عن ارضية فناء الدار، وهي اكثر برودة من اي مكان آخر في البيت، واحيانا يحتوي البيت على سرداب ارضي عميق وتكون ارضيته حوالي خمسة امتار تحت ارضية الفناء ويضاء بواسطة مسميات (كوات) في ارضية الفناء. ويتميز البيت بمدخله المعوج.
ومن خصائص البيوت البغدادية الاصيلة خارجيا هي تطليعة الطابق الاول، حيث تبرز ارضيته وجداره الخارجي على الازقة مؤلفة ما يسمى محليا بالشناشيل التي تحتوي على المشبكات الخشبية. الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تعادل المشربيات في البيوت المملوكية القاهرية وتعادل ايضا الرواشين في بيوت جدة التراثية.
وشرح الدكتور العزاوي بالتفصيل تقييم الحالة المناخية السائدة والبيئة الحرارية الناتجة عنها داخل العمارة المحلية، التي تتم على ثلاثة مستويات، هي تقييمها على مستوى المنطقة، ومن ثم على مستوى الازقة، وبعد ذلك يتم تصنيفها على مستوى البيوت الاصيلة نفسها.
وبحسب مفهوم المحلة فإن البيوت التراثية تشكل كتلا بنائية متلاحمة، حيث انها تبنى متلاصقة جنبا الى جنب وظهرا على ظهر ولا تبدي إلا واجهة واحدة هي الامامية المطلة على الازقة. اما من ناحية تخطيطها فإنها تتصف بنمو تدريجي متجانس مع ازقة تفصل كتلا بنائية بعضها عن بعض، وهذه الطرقات نفسها لها مستوياتها من ناحية الطول والعرض وعدد البيوت التي تؤدي اليها والاصغر منها هي الدربونة الصماء او العمياء التي لا تعطي اي منفذ، بل تؤدي الى بيوت قليلة. ان مفهوم تصميم هذه البيوت يؤدي الى حماية احدها الآخر من الشمس المحرقة صيفا ومن زخات المطر شتاء وبهذا فإن هندسة تلك البيوت تعرض اقل مساحة سطحية لأشعة الشمس.
كما ان التخطيط والانشاءات المتلاحمة والكتل البنائية المتلاصقة هي نتيجة تبني فكرة استعمال الفناء الداخلي للبيت (الحوش) وكذلك تبني فكرة / مبدأ توجيه الغرف ونوافذها نحو الداخل بدلا من الخارج (ما عدا الغرف الخارجية للطابق الاول التي تحتوي على الشناشيل التي تعطي طرقات بغداد وازقتها ودرابينها الميزة المعمارية الخاصة بها).
وبما ان هذا المقطع مكرر لبيوت متقابلة في نفس الزقاق، فإن مقطع الحيز الفضائي للأزقة والدرابين يعطي شكل المعبد السومري، وبهذا فان الزقاق يكون واسعا في الطابق الارضي لكي يكون متسعا لمرور الماشين فيه، وفي نفس الوقت يسمح بالتهوية الطبيعية لغرف الطابق الاول المطلة عليه ويقلل من اشعة الشمس. اما تقييم المناخ الداخلي للبيت في موسم الصيف فانه يتم على عدة مستويات:
اولا، مفهوم مخططات البيت وهيئته وشكله ومقطعه الشاقولي (الطولي والعرضي) للبيت الواحد.
ثانيا، اتجاه الغرف ونوافذها والاروقة والطلارات بالنسبة لاشعة الشمس واتجاه الرياح الموسمية.
ثالثا، نسبة مساحة الفجوات (النوافذ والابواب والفتوحات وغيرها) الى مساحة المواد الصلبة في الواجهات الخارجية وتلك المطلة على فناء الدار.
رابعا، موقع ومساحة وعدد النوافذ.
خامسا، تصميم البناء من ناحية الجدران الخارجية والداخلية المطلة على الفناء والشبابيك والابواب والارضيات والاسطح.
سادسا، تصميم السراديب التي تتنوع ما بين النيم حول فناء الدار والسرداب الارضي العميق المدفون تحت أرضية الحوش. سابعا، تصميمات خاصة، مثل البادكير (لاقف الهواء) والزمبور (حفرة تكييف الهواء لحفظ الاطعمة صيفا)، وكذلك الارض المنخفضة (الرهو) في النيم سرداب وذلك لحفظ المأكولات.
ثامنا، زرع اشجار البرتقال والرمان والتين والعنب والنبق والنخل والازهار ووضع نافورة ماء (شاذروان) في وسط الدار (تعرف في بغداد باسم بقجة او باغجة وتعرف في باقي الدول العربية باسم الجنينة).
هذا بالاضافة الى استعمال عناصر اخرى لتلطيف الحرارة الداخلية للبيت:
اولا، استعمال قطع القماش القطني او الكتاني او الجادر لتغطية فناء البيت بمستوى محجر السطح.
ثانيا، استعمال العاقول المبلل بالماء ووضعه امام شبابيك غرف الطابق الارضي (او حتى امام باب البيت) وذلك لتبريد الهواء بطريقة التبخر.
ثالثا:غسل ارضية الحوش بالماء يوميا في منتصف النهار لتلطيف الهواء ومن ثم رشها بالماء ليلا.
رابعا: فتح النوافذ والشبابيك وغلقها في اوقات معينة من اليوم وذلك لتسهيل دخول الهواء البارد ليلا ومنع دخول الهواء الحار نهارا، كما ان فتح باب البيت اثناء النهار يساعد على دخول الهواء البارد نسبيا من الازقة والدرابين ذات الحرارة المنخفضة والضغط العالي عن طريق المجاز.
ان البيوت البغدادية التراثية الاصيلة بكل غرفها، صممت لعدة استعمالات، تتناسب مع الصيف الطويل والشتاء القصير، وفي جميع الفصول، يستعمل الطابق الارضي والنيم سرداب والسرداب صيفا في اوقات النهار والسطح ليلا، ويستعمل الطابق الاول في موسم الشتاء. لذلك يكون البيت البغدادي مؤلفا من بيتين في بيت واحد (صيفي وشتوي) اما الطارمات (الاروقة) في الطابق الاول فتستعمل للنوم ليلا في موسمي الربيع والخريف. وهذا يدل على طابعها الانتقالي من الموسم البارد الى الموسم المعتدل ربيعا وبعكس ذلك خريفا.
وقام الدكتور العزاوي ايضا بمسح معماري لمخططات ومقاطع وواجهات هذه البيوت التراثية الاصيلة وأعد الرسوم المعمارية لها والتصاوير والشرائح الخاصة بها وذلك لكي تعطي صورة واضحة عن مفهومها وشكلها وهيئتها ومقطعها وكيفية الحياة العائلية والمعيشية فيها في كل موسم وفي اي وقت فيه.
ويرجع تاريخ البيوت البغدادية الاصيلة الى العصور القديمة للحضارات السومرية والاكدية والبابلية والآشورية، كما ان مفهوم هذا النمط من البيوت استخدم في العصور الاسلامية المختلفة ومن ضمنها قصر الاخيضر وبيوت سامراء في عهد المعتصم بالله.
وختاما فإن مفهوم هذه البيوت العربية والاسلامية التراثية الاصيلة وتصميمها، بجميع اشكالها وواجهاتها، انعكاس في العمارة والعمران للعوامل المناخية وللظروف البيئية السائدة.
ان هذه البيوت ليست ملائمة للاقاليم المناخية الحارة والجافة في البلاد العربية والاسلامية فحسب، بل انها ملائمة ايضا في آسيا وافريقيا واستراليا وفي اميركا الشمالية والجنوبية وحتى في بعض الاقاليم الجنوبية لاوروبا. يا ترى ماذا سيكون رد فعل الساكنين في تلك الاقاليم لو قيل لهم بأنه ثبت علميا بأن البيوت العربية والاسلامية التراثية الاصيلة هي اكثر ملاءمة لمناخهم الحار والجاف من بيوتهم التي يشيدونها انفسهم الآن او تلك التي شيدوها سابقا؟ هل سنرى رد فعل عنصريا او دينيا، او كليهما؟
لقد آن الاوان لكي نقول إن حلول دول العالم الثالث تصلح لحل بعض مشاكل دول العالم الاول المتقدم، خاصة في تبني المبادئ الاصيلة لتصميم العمارة والعمران الملائمة للمناخ والبيئة.