القسم الثاني من الفصل الثاني
وعدت إلى دهشتي الأولى معك..
إلى كل التفاصيل الأولى التي لفتت نظري إليك منذ البدء. إلى تلك اللوحة بالذات التي توقفت طويلاً أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من مكتوب.. أكثر من مصادفة.
أنتِ..
أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على لوحاتي. تتأملين بعضها، تتوقفين عند بعضها الآخر، وتعودين إلى الدليل الذي تمسكيه بيدك لتتعرفي على أسماء اللوحات التي تلفت نظرك الأكثر؟
أنتِ..
تراك أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو الأضواء الموجهة نحو اللوحات، وكأنها موجّهة نحوك.. وكأنك كنت اللوحة الأصلية.
أنت إذن..
تتوقفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحداً. تتأملينها بإمعان أكبر، تقتربين منها أكثر، وتبحثين عن اسمها في قائمة اللوحات.
ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة. واستيقظ فضول الرسّام المجنون داخلي..
من تكونين، أنت الواقفة أمام أحبّ لوحاتي ليّ..؟
رحت أتأملك مرتبكاً وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك كلاماً لا يصلني شيء منه.
ما الذي أوقفك أمامها؟
لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت لوحتي الأولى وتمريني الأول في الرسم فقط..
ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون حاضرة في معرضي الأهم هذا، لأنني اعتبرتها برغم بساطتها، معجزتي الصغيرة.
رسمتها منذ خمس وعشرين سنة، وكان مرَّ على بتر ذراعي اليسرى أقلّ من شهر.
لم تكن محاولة للإبداع ولا لدخول التاريخ. كانت محاولة للحياة فقط، والخروج من اليأس. رسمتها كما يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظراً ليجيب على ورقة الأستاذ:
"ارسم أقرب منظر إلى نفسك".
إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسلافي الذي قدم مع بعض الأطباء من الدول الاشتراكية إلى تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين، والذي أشرف على عملية بتر ذراعي وظل يتابع تطوراتي الصحية والنفسية فيما بعد.
كان يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يلاحظ إحباطي النفسي المستمر.
لم أكن مريضاً ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، ولا كنت معافى بمعنى الكلمة لأبدأ حياتي الجديدة.
كنت أعيش في تونس، ابناً لذلك الوطن وغريباً في الوقت نفسه؛ حراً ومقيداً في الوقت نفسه؛ سعيداً وتعيساً في الوقت نفسه.
كنت الرجل الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كرة صوف متداخلة.. فمن أين يمكن لذلك الطبيب أن يجد رأس الخيط الذي يحلّ به كلّ عقدي؟
وعندما سألني ذات مرّة، وهو يكتشف ثقافتي، هل كنت أحبّ الكتابة أو الرسم، تمسكت بسؤاله وكأنني أتمسّك بقشه قد تنقذني من الغرق، وأدركت فوراً الوصفة الطبية التي كان يعدها لي.
قال:
- إن العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات المرّات على جرحى كثيرين فقدوا في الحرب ساقاً أو ذراعاً، وإذا كانت العملية لا تختلف، فإنّ تأثيرها النفسي يختلف من شخص إلى آخر، حسب عمر المريض ووظيفته وحياته الاجتماعية.. وخاصة حسب مستواه الثقافي، فوحده المثقَّف يعيد النظر في نفسه كلّ يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغيّر شيء في حياته..
لقد أدركت هذا من تجربتي في هذا الميدان. لقد مرّت بي أكثر من حالة من هذا النوع، ولذا أعتقد أن فقدانك ذراعك قد أخلّ بعلاقتك بما هو حولك. وعليكم أن تعيد بناء علاقة جديدة مع العالم من خلال الكتابة أو الرسم..
عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب دون قيود كلّ ما يدور في ذهنك. ولا تهمّ نوعية تلك الكتابات ولا مستواها الأدبي.. المهم الكتابة في حد ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة ترميم داخلي..
وإذا كنت تفضّل الرسم فارسم.. الرسم أيضاً قادر على أن يصالحك مع الأشياء ومع العالم الذي تغيّر في نظرك، لأنك أنت تغيّرت وأصبحت تشاهده وتلمسه بيدٍ واحدة فقط..
وكان يمكن أن أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحبّ الكتابة، وأنها الأقرب إلى نفسي، مادمت لم أفعل شيئاً طوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي تلقائياً إلى الكتابة.
كان يمكن أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائماً بمستقبل ناجح.. في الأدب الفرنسي!
ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما بعد أنه كان جاهزاً في أعماقي:
- أفضل الرسم..
لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت قبل اليوم..
قلت: "لا..".
قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسم أحبّ شي إليك..".
وعندما ودّعني قال بسخرية الأطباء عندما يعترفون بعجزهم بلباقة: " ارسم.. فقد لا تكون في حاجة إليّ بعد اليوم!".
عدت يومها إلى غرفتي مسرعاً أريد أن أخلو لنفسي بين تلك الجداران البيضاء، التي كانت استمراراً لجدران مستشفى "الحبيب ثامر" الذي كان حتى ذلك الوقت، المكان الذي أعرفه الأكثر في تونس.
رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أفكر في كل ما يمكن أن أعلق عليها من لوحات بعد اليوم. كل وجوه من أحبّ.. كلّ الأزقة التي أحب.. كلّ ما تركته خلفي هناك.
نمت في تلك الليلة قلقاً، وربما لم أنم. كان صوت ذلك الطبيب يحضرني بفرنسيته المكسرة ليوقظني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، يودعني وهو يشدّ على يدي "ارسم". فتعبر قشعريرة غامضة جسدي وأنا أتذكر في غفوتي أول سورة للقرآن. يوم نزل جبرائيل عليه السلام على محمد لأول مرة فقال له "اقرأ" فسأله النبي مرتعداً من الرهبة.. "ماذا أقرأ؟" فقال جبريل "اقرأ باسم ربّك الذي خلق" وراح يقرأ عليه أول سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي إلى زوجته وجسده يرتعد من هول ما سمع. وما كاد يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني...".
كنت ذلك المساء أشعر برجفة الحمّى الباردة. وبرعشة ربما كان سببها توتري النفسي يومها، وقلقي بعد ذلك اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر لقاء لي مع الطبيب. وربما أيضاً بسبب ذلك الغطاء الخفيف الذي كان غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم يمنحني مستأجري البخيل غيره.
وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك "البطانية" الصوفية التي كانت غطائي في مواسم البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي.. "دثريني قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم أقل شيئاً ليلتها، لا لقسنطينة ولا لصاحب الغرفة البائس. احتفظت بحمَّاي وبرودتي لنفسي. صعب على رجل عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف حتى لنفسه بالبرد..
انتظرت فقط طلوع الصباح لأشتري بما تبقى في جيبي من أوراق نقدية ما أحتاج إليه لرسم لوحتين أو ثلاث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم "قنطرة الحبال" في قسنطينة..
أكان ذلك الجسر أحبّ شيء إليّ حقاً، لأقف بتلقائية لأرسمه وكأنني وقفت لأجتازه كالعادة؟ أم تراه كان أسهل شيء للرسم فقط؟
لا أدري..
أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني أرسمه كل مرة لأول مرة. وكأنه أحب شيء لدي كل مرة.
خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون كثير من التفكير "حنين". لوحة لشاب في السابعة والعشرين من عمره، كان أنا بغربته وبحزنه وبقهره.
وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. ولكن بربع قرن إضافي، كان لي فيه كثير من الخيبات والهزائم الذاتية.. وقليل من الانتصارات الاستثنائية.
ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت أكبرهم على الإطلاق؛ كما تشهد بذلك أقوال النقاد الغربيين الذين نقلت شهادتهم بحروف بارزة على بطاقات دعوة الافتتاح.
ها أنا اليوم... نبيّ صغير نزل عليه الوحي ذات خريف في غرفة صغيرة بائسة، في شارع "باب سويقة" بتونس.
ها أنا نبي خارج وطنه كالعادة.. وكيف لا ولا كرامة لنبي في وطنه؟
ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف لا وقدر ذي العاهة أن يكون "ظاهرة" وأن يكون جباراً ولو بفنه؟
ها أنا ذا..
فأين هو ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق لأيّ عربي أن عرض فيها لوحاته قبلي. أين هو الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيدٍ واحدة..
ذلك الذي لم أسأله يوماً ماذا فعل بيدي الأخرى!
وها هي "حنين" لوحتي الأولى، وجوار تاريخ رسمها (تونس 57) توقيعي الذي وضعته لأول مرة أسفل لوحة. تماماً كما وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميلادك الجديد، ذات خريف من سنة 1957، وأنا أسجِّلك في دار البلدية لأول مرة..
من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك اللوحة لأول مرة..
لوحة في عمرك.. تكبرينها _ رسمياً _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر لا غير.
لوحة كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لأبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم وقفت أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر...
على مفكرة ملأى بمواعيد وعناوين لا أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ذلك اليوم: نيسان 1981، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية الأيام. قبل ذلك اليوم، لم أجد في سنواتي الماضية ما يستحق التميز.
فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر. وكنت املأها غالباً كي لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائماً عندما يكون على مساحة ورق.
ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن فيها ما يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة واحدة لا تاريخ لها سوى الغربة. غربة كنت أحاول أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات إلى ثماني مفكرات لا غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق الأخرى... مسجلة لا حسب تواريخها الميلادية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي الاختيارية.
أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك الدائرة. كأنني أطوقك وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى الأبد.
كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفاً للذاكرة؛ كأنه سيكون ميلادي الآخر على يديك. وكنت أعي وقتها تماماً أن الولادة على يدك كالوصول إليك أمر لن يكون سهلاً.
يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تكن تحمل في النهاية سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم هاتفك في لقائنا الأول أو صدفتنا الأولى تلك.. وبأي مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلّ الأسباب تبدو ملفّقة عندما يطلب رجل من فتاة جميلة رقم هاتفها؟
كنت أشعر برغية في الجلوس إليك.. في التحدث والاستماع إليك.. عساني أتعرّف على النسخة الأخرى لذاكرتي. ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه لأول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية للغرباء بضمير الجمع.. فلا أملك إلا أن أجيبك بنفس كلام الغرباء بالجمع..
كانت الكلمات تتعثر يومها على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة لا أعرفها.. بلغة لا تعرف شيئاً عنّا. أيعقل بعد عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية محايدة..
- Mais comment allez-vous mademoiselle?
فتردين عليّ بنفس المسافة اللغوية:
- Bien.. je vous remercie..
وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو.
تكاد ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة لاحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينية افتقدتها..
- واشك..؟
آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة منِّي.. كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في معصمها سواراً كان لأمي؟
دعيني أضمّ كلّ من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد ملامح (سي الطاهر) في ابتسامتك ولون عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في طلّتك. ما أجمل أن تعود أمّي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في مقدمك. وما أجمل أن تكوني أنت.. هي أنت!
أتدرين..
(إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال.. رغب في البكاء..)
ومصادفتك أجمل ما حلّ بي منذ عمر.
كيف أشرح لك كلّ هذا مرّة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا الأعين والأسماع؟
كيف أشرح لك أنني كنت مشتاقاً إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك دون أن أصدق ذلك؟
وأنه لا بد أن نلتقي.
أجمع حصيلة ذلك اللقاء الأول..
ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في الواقع أحاول أن أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث.
كنت سعيداً وأنا أكتشف شغفك بالفنّ.. كنت على استعداد لمناقشتي طويلاً في كل لوحة، كان كل شيء معك قابلاً للجدل. وأمَّا أنا فكنت لحظتها لا أرغب سوى في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير شهيتي للكلام.
ولأنه لم يكن في الوقت متسع لأسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة مع قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثلاث عن علاقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك الأولى.. وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك!
اخترت جملي بكثير من الاقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات كثيراً من نقط الانقطاع.. لإشعارك بثقل الصمت الذي لم تملأه الكلمات.
لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك في يوم واحد على عجل.
كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي ثانية. وعندما سألتني "هل ستكون موجوداً هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في أول امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي لا علاقة له بزلازلي الداخلية:
"سأكون هنا بعد الظهر في أغلب الأحيان.." ثم أضفت وأنا أكتشف أن جوابي قد لا يشجعك على زيارة قد أكون غائباً عنها:
"ومن الأرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع الصحافيين والأصدقاء..".
كان في ذلك الكلام شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطراً للبقاء طوال الوقت في المعرض. كنت فقط أحاول ألا أجعلك تعودين عن قرارك لسبب ما.
قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة الأصدقاء القدامى:
"قد أعود لزيارة المعرض يوم الاثنين القادم.. إنه اليوم الذي لا دروس لي فيه. في الحقيقة أنا حضرت اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث إليك أكثر..".
تدخلت ابنة عمك، وكأنها تعتذر، وربما تتحسر لأنها لن تكون طرفاً في ذلك اللقاء:
"خسارة.. إنه اليوم الأكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن يمكنني أن أرافقك، ولكن قد أعود أنا أيضاً في يوم آخر." ثم التفت نحوي سائلة:
"متى ينتهي المعرض؟"
قلت:
"في 25 نيسان.. أي بعد عشرة أيام..".
صاحت:
"عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى.."
تنفست الصعداء.
المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح كلّ شيء أسهل.
تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن تنسحبي.
كان في عينيك دعوة لشيء ما..
كان فيهما وعد غامض بقصة ما..
كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ المحبب.. وربما نظرة اعتذار مسبقة عن كل ما سيحل بي من كوارث بعد ذلك بسببهما.
وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون الأبيض يوليني ظهره ملتفّاً بشال شعره الأسود.. ويبتعد عني تدريجياً ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء رأيتك أم لم أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى الأمر.
غادرت القاعة إذن مثلما جئتِ.. ضوءاً يشق الطريق انبهاراً عند مروره.. متألقاً في انسحابه كما في قدومه.
يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيلاً من مشاريع الأحلام.
ما الذي أعرفه عنك؟
شيئان أو ثلاثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة مرات، لأقنع نفسي أنك لم تكوني "نجماً مذنباً" عابراً كذاك الذي يضيء في الأمسيات الصيفية، ويختفي قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم، والذي يسمونه في قواميس الفلك.. "النجم الهارب"!
لا.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس وأزقتها المتشعبة بهذه السهولة. أعرف على الأقل أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا للدراسات، وأنك في السنة الأخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ أربع سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عينّ في باريس أي منذ سنتين. معلومات قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي للعثور عليك بأية طريقة.
كانت الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين تبدو طويلة وكأنها لا تنتهي. وكنت بدأت في العدّ العكسي منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها القاعة، رحت أعدّ الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين. تارة أعدّها فتبدو لي أربعة أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة الذي كان على وشك أن ينتهي، والاثنين الذي سأراك فيه، فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على التحمل، إنها يومان فقط هما السبت والأحد.
ثم أعود فأعدّ الليالي.. فتبدو لي ثلاث ليالٍ كاملة، هي الجمعة والسبت والأحد، أتساءل وأنا أتوقع مسبقاً طولها، كيف سأقضيها؟ ويحضرني ذلك البيت الشعري القديم الذي لم أصدّقه من قبل:
أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
ترى أهكذا يبدأ الحب دائماً، عندما نبدأ في استبدال مقاييسنا الخاصة، بالمقاييس المتفق عليها، وإذا بالزمن فترة من العمر، لا علاقة لها بالوقت؟
في ذلك اليوم، سعدت وأنا أرى "كاترين" تدخل القاعة. جاءت متأخرة كما كنت أتوقع. أنيقة كما كنت أتوقع. داخل فستان أصفر ناعم، تطير داخله كفراشه. قالت وهي تضع قبلة على خدي:
- لقد وصلت متأخرة.. كان هناك ازدحام في الطريق كالعادة في مثل هذا الوقت.
كانت كاترين تسكن الضاحية الجنوبية لباريس. وكانت المواصلات تتضاعف في نهاية الأسبوع، في تلك الطرقات الرابطة بين باريس وضواحيها، والتي لم يكن ذلك السبب الوحيد لتأخرها. كنت أعرف أنها تكره اللقاءات العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي في الأماكن العامة. ربما تخجل أن يراها بعض معارفها وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، وينقصها بذراع!
كانت تحب أن تلتقي بي، ولكن دائماً في بيتي أو بيتها، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن العيون، هنالك فقط كانت تبدو تلقائية في مرحها وفي تصرفها معي. ويكفي أن ننزل معاً لنتناول وجبة غداء في المطعم المجاور، ليبدو عليها شي من الارتباك والتصنع، ويصبح همّها الوحيد أن نعود إلى البيت.
وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقاً ما يكفينا من الأكل لقضاء يوم أو يومين معاً. لم أعد أناقشها ولا أقترح عليها شيئاً. كان ذلك أوفر وأكثر راحة لي، فلماذا كلّ هذا الجدل؟
قالت كاترين بصوت أعلى من العادة وهي تمسك ذراعي وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها جميعاً:
- برافو خالد، أهنئك.. رائع كلّ هذا.. أيها العزيز.
تعجبت شيئاً ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن يعرف الآخرون أنها صديقتي أو حبيبتي.. أو أي شيء من هذا القبيل.
ما الذي غيّر سلوكها فجأة، هل منظر ذلك الحشد من الشخصيات الفنية والصحافيين الذين حضروا الافتتاح.. أم أنها اكتشفت في هذا المكان، أنها كانت منذ سنتين تضاجع عبقرياً دون أن تدري، وأنَّ ذراعي الناقصة التي كانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعداً فنياً فريداً لا علاقة له بالمقاييس الجمالية؟
اكتشفت لحظتها، أنني خلال الخمس والعشرين سنة التي عشتها بذراع واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي إلا في قاعات العرض.
في تلك اللحظات التي كانت فيها العيون تنظر إلى اللوحات، وتنسى أن تنظر إلى ذراعي. أو ربما في السنوات الأولى للاستقلال.. وقتها كان للمحارب هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين الناس. كانوا يوحون بالاحترام أكثر مما يوحون بالشفقة. ولم تكن مطالباً بتقديم أي شرح ولا أي سرد لقصتك.
كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلب أيّ تفسير.
اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء في جيب سترتك، وكأنك تخفي ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل من لا ماضي لهم.
يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم. تفقدهم شهيتهم.
ليس هذا الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب.
للبدلات الأنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون المنتفخة. ولذا كثيراً ما تخجل من ذراعك وهي ترافقك في الميترو وفي المطعم وفي المقهى وفي الطائرة وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منك في كلّ مرّة أن تسرد عليهم قصتك.
كلّ العيون المستديرة دهشة، تسألك سؤالاً واحداً تخجل الشفاه من طرحه: "كيف حدث هذا؟".
ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلقة للركاب. ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة:
"أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل..".
لا ليست هذه الأماكن لك. شي من العزّة، من بقايا شهامة، تجعلك تفضّل البقاء واقفاُ معلقاً بيد واحدة.
إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، وجراحهم ربما كانت على يدك.
أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا.
ها أنت أمام جدلية عجيبة..
تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جُروحك. وتنتمي لوطن، يحترم جراحك ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. وأنت الذاكرة المعطوبة التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى واجهة لها؟
أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في السابق. كنت أهرب منها بالعمل فقط، والخلق المتواصل، وذلك الأرق الداخلي الدائم.
كان داخلي شيء لا ينام، شيء يواصل الرسم دائماً وكأنه يواصل الركض بي ليوصلني إلى هذه القاعة، حيث سأعيش لأيام رجلاً عادياً بذراعين، أو بالأحرى رجلاً فوق العادة..
رجلاً يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن تضاريس الأشياء بيد واحدة.
ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلّق للفرجة على الجدران. تتفحصه العيون وتفسره الأفواه كيفما شاءت.. ولا أملك إلا أن أبتسم، وبعض تلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قولاً ساخراً لـ "كونكور":
"لا شي يسمع الحماقات الأكثر في العالم.. مثل لوحة في متحف!".
جاء صوت كاترين خافتاً وكأنها تتحدث لي وحدي هذه المرة:
- عجيب.. إنني أرى هذه اللوحات وكأنني لا أعرفها، إنها هنا تبدو مختلفة..
كدت أجيبها وأنا أواصل فكرة سابقة:
"إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضاً.. إنها تماماً مثل الأشخاص. إنهم يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة تحت الأضواء!"
ولكنني لم أقل لها هذا.
قلت لها فقط:
- اللوحة أنثى كذلك.. تحبّ الأضواء وتتجمل لها، تحب أن ندلّلها ونمسح الغبار عنها، أن نرفعها عن الأرض ونرفع عنها اللحاف الذي نغطِّيها به... تحبّ أن نعلقها في قاعة لتتقاسمها الأعين حتى ولو لم تكن معجبة بها..
إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل لا غير..
قالت وهي تفكر:
- صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه الأفكار؟ أتدري أنني أحب الاستماع إليك؟ لا أفهم كيف لا نجد أبداً وقتاً للحديث عندما نلتقي.
وقبل أن أعلّق على سؤالها بجواب مقنع جداً.. أضافت بنوايا أعرفها وهي تضحك..
- متى ستعاملني أخيراً كلوحة؟
قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي لا تشبع:
- هذا المساء إذا شئت..
وعندما أخذت كاترين منّي مفاتيح البيت، وطارت كفراشة داخل فستانها الأصفر نحو الباب.
قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات المعلقة بعناية على الجدران، والتي ما زال بعض الزوار يتأملونها:
- أنا متعبة بعض الشيء.. سأسبقك.
أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار عليّ أو تغار منّي.. أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها.
كنت أريد فقط أن أستعين بها لأنسى. كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار.. انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حبّ بعد شهر من الوحدة، والركض لإعداد كلّ تفاصيل هذا المعرض.
لحقت بكاترين بعد ساعة.
كنت متعباً لأسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك وكلّ ما عشته من هزّات نفسية ذلك اليوم.
قالت وهي تفتح لي الباب:
- إنك لم تتأخر كثيراً..
قلت وأنا أداعبها:
- كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعاً إلى البيت.. الوحي لا ينتظر كثيراً كما تعلمين!
ضحكنا..
كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود.. بشرعية الجنون!
ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في الأريكة المقابلة لي تشاهد الأخبار، وتلتهم (سندويتشاً) أحضرته معها، أنها امرأة كانت دائماً على وشك أن تكون حبيبتي، وأنها هذه المرّة _ كذلك _ لن تكونها!
إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي امرأة تعاني من عجز عاطفي، ومن فائض في الأنانية.. ولذا لا يمكنها أن تهب رجلاً ما يلزمه من أمان.
ليلتها، ادّعيت أنني لست جائعاً.
في الحقيقة كنت رافضاً وربما عاجزاً عن الانتماء لزمن "السندويتشات".
وبرغم ذلك..
حاولت ألا أتوقف عند تلك التفاصيل التي كانت تستفزّ بداوتي في أول الأمر.
تعوّدت منذ تعرفت على كاترين ألا أبحث كثيراً عن أوجه الاختلاف بيننا. أن أحترم طريقتها في الحياة، ولا أحاول أن أصنع منها نسخة منّي. بل إنني ربما كنت أحبها لأنها تختلف عني حدّ التناقض أحياناً.
فلا أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على أن يجعلك تكتشف نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين بكثير من اكتشافاتي، فلا شيء كان يجمعني بهذه المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن.
وكان كافياً لنكون سعيدين معاً.
تعودنا مع مرور الزمن ألا نزعج بعضنا بالأسئلة ولا بالتساؤلات. في البدء تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط العاطفي الذي لا مكان فيه للغيرة ولا للامتلاك.
ثمَّ وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرّيّة.. وعدم الالتزام بشيء تجاه أحد..
كان يحدث أن نلتقي مرّة في الأسبوع، كما يحدث أن تمرّ عدة أسابيع قبل أن نلتقي.. ولكن كنّا نلتقي دائماً بشوق وبرغبة مشتركة.
كانت كاترين تقول "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة"، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي بأن أكون سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرّت من هنا عندما ترحل.
في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كلّ نهاية الأسبوع معي، وسعدت أن تقبل عرضي بحماس.
كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداً مع ساعتي الجدارية في انتظار يوم الاثنين.
ورغم أنّ كاترين ظلّت معي حتى عشية يوم الأحد، فإن الوقت بدا لي طويلاً، وربما بدا لي أكثر لأنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل ذهابها وكأنني سأخلو بك عند ذلك.
كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد..
ماذا أقول لك لو انفردت بك يوم الاثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. وكيف أقصّ عليك تلك القصة العجيبة، قصّتنا؟
كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيّتها؟
صباح الاثنين، لبست بدلتي الأجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري المفضّل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة.
كان أمامي متَّسع من الوقت لأشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة، وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل العاشرة.
عندما دخلت القاعة، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من أضواء موجهة نحو اللوحات، ولا أيّ ضوء كهربائي يضيء السقف.
ألقيت نظرة خاطفة على الجدران.
ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة ولا مساحيق ولا "رتوش".
هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية صاخبة.
اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك.
"صباح الخير قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلّق منذ ربع قرن؟".
ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة.
فابتسمت لها بتواطؤ.
إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!"
وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة!
رحت بعدها أتلهّى ببعض المشاغل التي كانت مؤجّلة منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، والتفرّغ لك فيما بعد. وكان صوت داخليّ يلاحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين، ويمنعني من التركيز على أي شيء.
ستأتي..
ستأتي.. ردّد الصوت ساعة وساعتين وأكثر.. ومرّ صبح ومرّ مساء ولم تأتِ.
!