الفصل الثالث
التقينا إذن..
قالت:
- مرحباً.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا يوم..
قلت:
- لا تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر بعمر.
قالت:
- كم يلزمني إذن لتغفر لي؟
قلت:
- ما يعادل ذلك العمر من عمر!
وجلس الياسمين مقابلاً لي.
يا ياسمينة تفتحت على عجل.. عطراً أقلّ حبيبتي.. عطراً أقل!
لم أكن أعرف أنّ للذاكرة عطراً أيضاً.. هو عطر الوطن.
مرتبكاً جلس الوطن وقال بخجل:
- عندك كأس ماء.. يعيشك؟
وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي.
ارتوي من ذاكرتي سيدتي.. فكلّ هذا الحنين لكِ.. ودعي لي مكانا هنا مقابلاً لكِ..
أحتسيك كما تُحتسى، على مهل، قهوة قسنطينية.
أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا الظمأ نفسه.. ولكن كانت لنا الرغبة نفسها في الحديث.
قلت معتذرة:
- أنا لم أحضر البارحة، لأنني سمعت عمّي يتحدث لشخص على الهاتف ويتفق معه على زيارتك، ففضّلت أن أؤجّل زيارتي لك إلى اليوم حتى لا ألتقي بهما..
أجبتك وأنا أتأملك بسعادة من يرى نجمه الهارب أخيراً أمامه:
- خفت ألا تأتي أبداً..
ثم أضفت:
- أمّا الآن فيسعدني أنني انتظرتك يوماً آخر، إنّ الأشياء التي نريدها تأتي متأخرة دائماً!
تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟
ساد شي من الصمت بيننا وارتباك الاعتراف الأول.. عندما قلت وكأنك تريدين كسر الصمت، أو إثارة فضولي:
- أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟
قلت سعيداً ومتعجباً:
- وماذا تعرفين مثلاً؟
أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه:
- أشياء كثيرة قد تكون نسيتها أنت..
قلت لك بمسحة حزن:
- لا أعتقد أن أكون نسيت شيئاً. مشكلتي في الواقع أنني لا أنسى!
أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لم أعِ ساعتها كلّ عواقبه القادمة عليّ:
- أمّا أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى كل شيء.. تصوّر.. البارحة مثلاً نسيت بطاقة الميترو في حقيبة يدي الأخرى. ومنذ أسبوع نسيت مفتاح البيت داخل البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي الباب.. إنها كارثة.
قلت ساخرا:
- شكراً إذن لأنك تذكرت موعدنا هذا!
أجبت باللهجة الساخرة نفسها:
- لم يكون موعداً.. كان احتمال موعد فقط.. لا بدّ أن تعلم أنني أكره اليقين في كلّ شيء.. أكره أن أجزم بشيء أو ألتزم به.. الأشياء الأجمل، تولد احتمالاً.. وربّما تبقى كذلك.
سألتك:
- لماذا جئتِ إذن.؟
-----------------------------------------