هل تستطيع الرواية بشكلها الحالي أن تستوعب الثورة التقنية المتسارعة بالعالم أم أنها يجب أن تتخلى عن مكانتها لصالح أشكال تعبيرية وإبداعية اخرى أكثر قدرة وجاذبية كالسينما مثلا ً ؟ وهذا السؤال يقود الى سؤال أخر هل الروائي بأدواته الحالية المستهلكة قادر على المضي في مغامرة الرواية ؟ وهل الروائي بأدواته الحالية المستهلكة قادر على أن يبقى روائيا ً ؟وفي الحقيقة فإن محاولة الإجابة على هذه الأسئلة ستقود الى دوامة محمومة أخرى من الأسئلة , مثل ما هي لغة الرواية القادمة ؟ بل ماهي اللغة أصلا ً ؟ وهل الكتاب بشكله الورقي المعهود قادر على إستيعاب الرواية القادمة ؟ أم أننا بحاجة الى لغة أخرى وكتاب أخر ؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة التي يلد بعضها بعضا ً ,يجب أن يقودنا التوقف والعودة الى التاريخ تاريخ الرواية , فمن هذه النقطة إنطلقت الرواية الحديثة بمعناها الواسع , لكن السرد لم يبدأ بالرواية إنما بالخيال ,وكانت ليالي شهرزاد نوعا ً من الإستجابة لعملية غير عملي , هربا ً من واقع مرعب , واقع مليء بالظلم وإنهيار القيم , فقد جاءت الرواية وليدة للخيال البشري الجامح الذي حاول أن ينشيء عالما ً أخر موازيا ً لعالم واقعي مرفوض , وهذا يعني أن الرواية ولدت نتيجة لحافز فاعل ورد فعل مواز ٍ له في القوة ومعاكس له بالإتجاه حسب قانون نيوتن الثالث , وكانت الطفولة التي تخزنت في اللاوعي الجمعي للبشرية ,وإريدت فيما بعد مرحلة تشكل الوعي الى عنف دموي لا يرحم, لون الكرة الأرضية بالإحمر القاني , فقد عاش الإنسان في أول تواجده على هذه الأرض ضمن بيئة لا ترحم ,مليئة بالظواهر الطبيعية المعادية والوحوش الكاسرة التي كانت تنقض عليه بلا هوادة أو شفقة , فمراجعة بسيطة لمجمل الأساطير البشرية التي تدلنا بشكل مؤكد الى هذه البيئة المرعبة , ولنأخذ منها أسطورة التنين الذي ينفث النار , أو أسطورة الأفعى ذات الرؤوس السبعة ,فالأساطير تدلنا على أن بدء تواجد الإنسان على هذه الأرض يمتد الى عصر الديناصورات فالتنين ليس أكثر من طائر ضخم ومفترس , وكذلك الأفعى ذات السبع رؤوس , ولا بد للإنسان في المرحلة الحلمية الطفولية قد واجه عالما ً في غاية الرعب والشراسة ,عالم لم يرحمه وتخزن في لا وعيه الجمعي , ثم ظهر بعد تشكل هذا الوعي على شكل عنف لا يرحم , سواء كان ضد أخيه الإنسان أو ضد الحيوان , أو ضد البيئة المحيطة به بشكل عام , ولدينا ثلاثة نماذج أستخدمت الخيال لتجاوز المعرفة , لكن هذا الخيال بثلاثتها لم يكن خيالا ً خلاقا ً مغامرا ً في المجهول بل كان خيالا ً خلاقا ً مغامرا ً في المعلوم ,أو فيما ترسب منه داخل الوعي الجمعي البشري للماضي السحيق والقريب , ولقد كتب هؤلاء وأبدعوا وهم أسرى الماضي , من هنا يمكن لنا أن نقول إن الرواية خيالها كان خيالا ً سلفيا ً إرتداديا ً , وإن الكتابة مغامرة كما هي الحياة , والروائي مغامرا ً تماما ً , وكما يختلف البشر تختلف الكتابة , فالإنسان القانع الراضي بما ترميه إليه الحياة من فتات موائد الأخرين لن يكون مبدعا ً ,ولا خلاقا ً , ذلك لأن الإبداع دخول في المجهول وفي اللاواضح واللا محدود واللاثابت, ومن يحاول أن يبدع بأساليب وطرق سلكها الأخرين قبله ليس مبدعا ً وإنما مقدا ً , فلقد جاءت الرواية لتعبر عن العالم , سواء ً رفضا ً أو إيجابا ً ,ولتستشرق المستقبل , والروائي مكتشف قبل كل شيء لأن له عينا ً ثالثة ليست لدى الأخرين والروائي المبدع لا المقلد طبعا ً , وهذا الروائي معني بالزمن القادم وبالجغرافيا الأخرى حيث أن الرواية حاصل قسمة الزمن على المكان , فالرواية الواقعية تسعى للوصول الى المستحيل اللامتناهي والتوحد بالخيال المعرفي ,المطلق , وليس هذا غرورا ً , فيقول أودنيس " إن جوهر القصيدة إختلافها لا إئتلافها وأقول أنا إن الرواية لا جوهر لها إلا إن كانت مختلقة ومغايرة وجميلة في غربتها وبحتها المستمر عن اللاممكن وعن الثبات اللاممكن ,وذلك لأن الرواية حين تستقر على شكل معين تنتهي من كونها إبداعا ً لتصبح شيء أخر , ورواية الواقعية هي الرواية القادمة , ولن تتوقف الرواية عندها ,لكن ما سيميز هذه الرواية عن غيرها هو قدرتها الدائمة على إتخاذ أشكال مختلفة بإستخدام الصيغ المختلفة للتقنيات .