قلق أوروبي من تقلص المجتمعات الأوروبية بسبب تراجع الولادات.
تسجل فرنسا نسبة ولادات أعلى مقارنة بألمانيا التي يزداد فيها من جهة عدد المتقدمين في السن، ومن جهة أخرى يتقلص فيها عدد السكان بشكل مقلق . ويمثل هذا الوضع تحديا رئيسيا أمام اكبر اقتصاد في أوروبا.
يقول دومنيك غريلماير من المعهد الألماني الفرنسي إن "عدد الألمان في تراجع بسبب قلة الولادات، فيما يزداد عدد الفرنسيين. وتكشف الإحصاءات أن نسبة الولادات في ألمانيا تصل إلى 1،4 بالمائة ، في حين أن هذه النسبة تتجاوز 2 بالمائة في فرنسا. ويعتقد غريلماير أن عدد سكان فرنسا سيفوق في المستقبل القريب عدد السكان في ألمانيا. ويقول في هذا السياق: " عدد السكان في ألمانيا سيقترب من العدد المسجل في فرنسا، وهذا يحدث منذ الآن. فعددنا في تراجع مستمر بسبب عدد الولادات المنخفض، فيما ينمو عدد الفرنسيين، ويعني ذلك أننا نقترب من عتبة 70 مليون نسمة".
وتعد نسبة الولادة في ألمانيا الأدنى بين دول الاتحاد الأوروبي، أي أن عدد سكانها يقل بوتيرة سريعة، فيما فشلت سلطات الهجرة في تعويض عدد الوفيات الذي يفوق عدد الولادات.
الالتحاق المبكر بالمجتمع يساهم في تكوين الشخصية
وتشير كريستينا شيلدمان من مؤسسة فريدريش إيبرت إلى أن سياسة شؤون الأسرة الفرنسية لا تدعم فقط النمو السكاني، بل تقوم بتقديم حوافز أكثر في موضوع المساواة بين الرجل والمرأة، كما إنها تركز على التوفيق بين حياة العمل والحياة الأسروية داخل البيت. وتؤكد دراسة أجرتها المؤسسة أنه في فرنسا "كلما ارتفع عدد النساء العاملات، إلا وارتفعت نسبة الولادة"، وهذا "ينطبق ليس فقط على فرنسا، بل حتى على الدول السكاندينافية".
وعندما أعلنت الحكومة الفرنسية قبل فترة وجيزة أنها تنوي من خلفية التقشف الحكومي فرض اقتطاعات على الدعم المقدم للعائلات أثار ذلك زوبعة كبيرة في البلاد، لأن سياسة الشؤون الأسروية تعتبر في فرنسا لبنة أساسية في النسيج الاجتماعي الفرنسي الذي يرفض المساس به.
وتقول أنغيلا غرويليش، أستاذة العلوم الاقتصادية والاجتماعية بجامعة باريس إن "الطفل يلتحق في وقت مبكر بالمجتمع مقارنة بألمانيا بحجة أن التأثير الخارجي المبكر على الطفل يساهم بصفة أفضل في تكوين شخصيته. في المقابل نجد أن الألمان يعتبرون "أنه من الضروري حماية المولود الجديد من تأثيرات العالم القبيح للمحافظة على روحه الطاهرة".
وبناء على النموذج الفرنسي فإن السلطات الفرنسية توفر شبكة واسعة من دور الحضانة وروض الأطفال وفرص الرعاية طوال اليوم في المدارس، وهي إجراءات تعمل الجهات المسؤولة في ألمانيا أيضا على تطويرها في الآونة الأخيرة. لكن الجهود الألمانية في هذا الاتجاه لا تتم من أجل إدماج الأطفال الصغار في سن مبكرة في المجتمع، بل إن ذلك يحصل تحت ضغط توفير فرص العمل والتدرج في السلم المهني للأمهات. ويلاحظ دومنيك غريلماير من المعهد الألماني الفرنسي أن هذا التحول الاجتماعي في ألمانيا يبقى مقرونا بنوع من تأنيب الضمير، لأن عددا من الألمان يشعر بالذنب عندما يترك الطفل الصغير تحت رعاية مربية غريبة عن الأسرة، في الوقت الذي تذهب فيه الأم لمزاولة عملها اليومي. لكن هذه التحفظات بدأت تتراجع حتى في المجتمع الألماني. وبذلك تتشكك العائلات المحافظة من برامج المؤسسات الحكومية لرعاية الأطفال الصغار وتعتبر أن التربية يشوبها كثير من النواقص والاعوجاج. فالأم – حسب تلك المواقف- هي الجديرة بتربية أطفالها، عوض مؤسسات الدولة التي قد تخضع لتأثيرات غير مرغوب فيها.
قسم الولادة بأحد مستشفيات لايبتسيغ
"النظام الرأسمالي هو السبب في تراجع الولادات"
واعتبر أستاذ الفلسفة بجامعة سانت غالن، ديتر تومي أن طراز الحياة الذي يفرضه النظام الرأسمالي هو السبب الحقيقي في انخفاض عدد الولادات، وقال إن "الرأسمالي ينظر إلى الجهود المبذولة من أجل سعادة العائلة كمضيعة للوقت، لأن الرأسمالي لا يكسب شيئا من وراء ذلك." واعتبر هذا المفكر أن الرأسمالي يفكر فقط في تكديس الثروة باستمرار وانتزاع مزايا شخصية فقط. وأضاف " أن هذا التفكير الرأسمالي يتسع بالتحديد في مجال العمل، وعدد الأطفال يتراجع".
ضعف التركيز على رعاية الأطفال داخل مؤسسات الدولة بشكل متميز في ألمانيا، مثلا في دور الحضانة وروض الأطفال يعود إلى التجارب التربوية السلبية إبان الحكم النازي في ألمانيا، وهي انتكاسات اجتماعية قد يطول مفعولها لأمد طويل. أما فرنسا فقد لاحظت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أن عدد سكانها في ركود، فأدت تلك الصدمة الوطنية إلى وضع أسس سياسة تشجع على الإنجاب للرفع من عدد السكان. وتعمل الدولة الفرنسية حتى يومنا هذا على مكافئة الأسر الغنية بالأطفال. فخلافا لما هو سائد في ألمانيا فإن الأسرة لا تحصل على أي دعم من الدولة عند إنجاب الطفل الأول، بل ابتداء من الطفل الثاني يمكن للأسرة الفرنسية الحصول على دعم مادي حكومي.
وحتى نظام الضرائب يكافئ الأسرة عند حصولها على الطفل الثالث، ومع الطفل الرابع قلما تدفع العائلة ضرائب للدولة، وبالتالي فإن العائلات تلمس تحفيزات مالية تشجعها على إنجاب أطفال. أما في ألمانيا فيبقى الوضع مختلفا تماما، لأن الدولة لم تخطو بشكل ملموس في اتجاه تشجيع إنجاب الأطفال. وكانت المستشارة الألمانية انغيلا ميركل قد حذرت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي من أن ارتفاع نسبة عدد المتقدمين في السن يشكل اكبر تحد في هذا القرن لألمانيا. وقالت ميركل حينها في مقارنة مع العولمة "إن التغير الديموغرافي يعني انه علينا العثور أيضا على أجوبة جديدة على صعيد الدولة وعلى صعيد الاتحاد أوروبي للاحتفاظ بمكانتنا في الاقتصاد العالمي".
وخلال مؤتمر عن التطور الديموغرافي في ألمانيا في مايو الماضي حذرت المستشارة ميركل من انه بحلول 2030 سينقص حجم الفئة العمرية العاملة في ألمانيا بمستوى 6 ملايين شخص، أي انه يتعين على ألمانيا أن تكون أكثر انفتاحا على المهاجرين من أصحاب المهارات.