ويرى في هذا السياق، أن العلوم الآلية لا ينبغي التوسع فيها وفي تدريسها؛ لأن"المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها"[17] ويتساءل مستنكرا"فإذا قضوا(المتعلمون)العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد؟"[18]. فالسبب وراء هذا الموقف هو ضخامة الكتلة المعرفية لهذه للعلوم الأداتية رغم كونها طريقا إلى علوم هي المقصودة بالذات. فابن خلدون ينظر إلى التعليم نظرة نفعية تصبو إلى تحقيق الملكة في أقصر وقت وبأقل العلوم الضرورية دون الإبحار في عمق العلوم الأداتية.
الاهتمام بالكتابة والحساب
ركز ابن خلدون على تعليم هاتين الصنعتين لكونهما مفيدتين للعقل. فالكتابة تتضمن عملية ذهنية معقدة فيها"انتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس"[19]. بعبارة أخرى،"الانتقال من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب".[20] أو بعبارة أكثر دقة، "الانتقال من دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة...]إلى[ دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة"[21].
إن تكرار هذه العملية الذهنية المتضمنة في الكتابة (من الحروف المرسمة إلى منطوق الحروف المرسومة، ومن منطوق الحروف المرسومة إلى الصورة الذهنية أو المعنى، والعكس صحيح) يكون ملكة الانتقال السريع بين الدوال والمدلولات. هذه الملكة تزيد العقل تعقلا وفطنة وذكاء.
أما الحساب ففي صنعته"تصرف في العدد بالضم والتفريق"[22]. وصنعة تحتاج إلى الكثير من البراهين والاستدلالات.
يستنتج ابن خلدون من هذا التحليل أن الكتابة تقوي النظر العقلي، وأن الحساب يقوي العقل (العمليات الذهنية الصورية أو الشكلية أو المنطقية) لهذا يجب الاهتمام بتعليمهما.
الرحلة لطلب العلم:
يؤكد ابن خلدون أن كمال التعليم يكون بالرحلة لطلبه. فالرحلة تتيح الفرصة للقاء أهل العلوم بالمشايخ على اختلاف وجهاتهم ومشاربهم. وينج عن هذا اللقاء صقل الملكات ووعي الاختلافات بين المشايخ على تعددهم ثم التمكن من تجريد العلم وتمييزه، وأخيرا التعالي على الاصطلاحات التعليمية بحيث يدرك المتعلم أن الاصطلاحات ما هي إلا"أنحاء تعليم، وطرق توصل وتنهض فواه إلى الرسوخ والاستحكام في المكان. وتصحح معارفه وتميزه عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهم من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم"[23].
ينبني التعليم المفيد إذن، على ستة عناصر (التدريج، التكرار، عدم الخلط، عدم التوسع في المعارف الأداتية، التركيز على الكتابة والحساب، التوسع في العلوم من خلال الرحلة لطلبها). والمطلوب هو أن يحصل المتعلم على ملكة في العلم المدروس. فما المقصود بالملكة عند ابن خلدون؟
مفهوم المَلَكة:
ترد هذه الكلمة في أكثر موضع من"المقدمة" ولا سيما على امتداد الفصول المخصصة للتعليم. وفي كل مرة يتخذ معنى سياقيا مضبوطا. وليس من المجازفة القول إنه إذا كان مفهوم العصبية هو المفهوم المركزي في تحليلات ابن خلدون للسلطة السياسية والدولة والاجتماع البشري، فإن مفهوم الملكة هو المفهوم المركزي في تحيلاته المتصلة بالتعليم.
ولتحديد تعريف واضح لهذا المفهوم، سنرجع إلى نص المقدمة بذاته لجرد التعريفات التي أعطاها له ابن خلدون نفسه، وهذا أسلم طريق نتبعه من خلال تتبع معاني المفهوم مثلما وردت في النص الأصلي.
إن الملكة أولا فردية ومكتسبة(ليست جماعية ولا فطرية)، كما أنها جسمانية (خارجية وملاحظة) حتى ولو كانت قدرة ذهنية. يقول ابن خلدون:"والملكة كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ"[24]. والملكة متميزة عن مفهومي الفهم والوعي(تتجاوز هذين المفهومين)؛لأن"الملكة في غير الفهم والوعي"[25]. فالفهم والوعي مشتركان بين العامي والجاهل والمبتدئ والعالم. والحال أن الملكة لا تكون سوى للعالم. والملكة فوق ذلك تكتسب بتكرار الأفعال، "والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة فيزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة"[26]. وعندما ترسخ هذه الملكة يحصل الحذق والذكاء والكيس والاستيلاء على العلوم والصنائع."وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره"[27]. "وما لم تحصل الملكة لم يكن الحذق"[28]. وفضلا عن هذا، الملكة تتطور وتجود، مثلما تنطفئ وتخمد، "[فالمتعلم] إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم، استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق"[29]، "فتجود ملكته"[30]. "وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه"[31].
وبتركيب العناصر أعلاه، نصل إلى التعريف التالي لمفهوم الملكة:"مجموع القدرات والمهارات والاستعدادات الفردية والمكتسبة بتكرار الأفعال والمتطورة والتي لها تجليات سلوكية خارجية (الحذق والكيس والذكاء) مهمة للتعلم".
والملاحظ أن هناك نوعين من الملكات، بحسب ابن خلدون:
الملكات الأساسية التي ينبغي للمتعلم أن يحصلها من خلال تعلماته، وهي غاية التعلم وهدفه الأسمى، "وذلك أن الحذق في التعلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله"[32].
الملكات الوسيطية(الأداتية) التي تخدم غيرها في طريق تحصيل الملكة الأساسية[33]. فالمتعلم يحصل ملكة أولية (وسيطية) تساعده على الوصول إلى الملكة الأساسية مثل ملكة الوضوء من أجل تحصيل الملكة الأساسية التي هي الصلاة.
خلاصة:
الفكر طبيعي في بني البشر وبه تميزوا عن سائر الحيوانات، والفكر بطبيعته تواق إلى تحصيل ومعرفة ما عند الآخرين من معارف وصنائع. هذا الشوق والاشتياق والفضول وحب الاطلاع يقود حتما إلى التعلم. ومن أراد أن يتعلم يرجع إلى من سبقه بعلم فيأخذ عنه علمه ويتعلم فتحصل له ملكة أولى يكون أقدر بها على تعلم ما بقي من ذلك العلم حتى تحصل له ملكة ذلك العلم. عندئذ يصبح صاحب علم مخصوص، فيفزع إليه أولئك الذين يرغبون أخذ العلم ليتعلموا. وهكذا ينشأ التعليم. إنه إذن، ضرورة طبيعية وبشرية.
والتعليم، وإن ارتبط بالعلم والفكر، فهو صنعة شأنه شأن جميع الصنائع. فالمعلمون مثل الصناع، يختلفون في اصطلاحات التعليم لكنهم لا يختلفون في العلم؛ لأنه واحد عندهم.
وقد اختلفت مذاهب المسلمين في التعليم لكنهم اتفقوا جميعا على تعليم القرآن للولدان. كما أن اصطلاحات التعليم (منهجيات التدريس) اختلفت بين أئمة ومشايخ المسلمين. فمنهم من بنى تعليمه على المطولات من الكتب، ومنهم من اعتمد على المختصرات، وكثير منهم كان شديدا على متعلميه.
والتعليم المناسب هو التعليم المفيد القائم على التدرج، والتكرار، وعدم الخلط، وتجنب الإغراق في العلوم الأداتية والتوسع في المعرفة، هدا التعليم الذي غايته تحصيل المتعلم ملكة أساسية من خلال المرور بملكات أولية وسيطية.
هذه الرؤية للتعليم تتضمن الكثير من الأفكار والمفاهيم والمبادئ المهمة التي لا يمكن غض الطرف عنها. إنها ليست شتاتا من الأفكار بل هي جهاز من المفاهيم المتسقة والمترابطة التي تؤسس رؤية واضحة للفعل التعليمي في صيغته التقليدية. فهل ترقى هذه الرؤية إلى مستوى النظرية التعليمية؟