تتمة المقال السابق
منقول للفائدة
عُرف ولا يزال بلقب لسان الغيب وتَرجُمان الأسرار,وهما جديران بربيب حاضرة الجمال وكعبة الفن ومحجَّة العلماء, شيراز.
شاعر العالمين: الأكبر والأصغر, وإذا كان اللقبان يشيران إلى سنة دهرية أخذ بها ملايين الناس فتداولوا فتح ديوانه فوق ضريحه أو في مكنونات منازلهم استشرافا لحظهم من الحياة الدنيا وقدرهم المخبوء في شفافية غزلياته, فإنهما يعنيان أمرا أجلَّ ثوى وراء هذه السُّنَّة.
حافظ الشيرازي سبر في غزلياته, المتكثِّرة فنونا, غيب النفس الإنسانية وأغوارها اللامتناهية, ثم استخرج مكنوناتها ونشر ما انطوى من أسرارها فكان لسانها بلمح الإيجاز وبيان الإعجاز.
ولست أعرف, كتابا يلوذ به الناس كشفا عن فألهم وتنويرا لمصيرهم نظير ديوان حافظ! كما يندر أن تقع على أثر شعري في مضمار الغزل يكشف مكنون الصّدور من خير وشر وصدق ورياء وحب وبغض, من وَلَهٍ تخونه الإشارات أو العبارات أو صَبرٍ تُفشي سِترَهُ أَمارات الصَّبر, كمثل غزليات حافظ! فقد أعلن هذا الشيرازيّ حربًا شديدة على أهل الرياء والنفاق يسترون بِشارات ظاهرهم التَّقويّة باطنهم الفاسد, داعيا أحيانا - في إطار الرّمز - إلى الأخذ بالمنكر ليشير, من طرفٍ خفيّ, إلى منكرهم المستتروكأنه يقول لهم: هذا طريق المنكر, طويل عريض معبَّد فأْتوه جهارا واسلكوه إعلانا ولا تواربوا مختالين.
وهو في ذلك يعاني ما عانته الدعوة إلى الخير وتقوى الله في القرآن والإنجيل وما كشفت من نفاق المنافقين ورياء المرائين.
كأس جمشيد
ولمّا كان المنكر متفشيّا في زمانه, وكان اللجوء إلى تمويهه بظاهر خيّر قد أصبح زيّا وقحًا يتستّر به المراؤون, فقد طارت غزليّات حافظ كاشفة السّتر في الآفاق فبلغت, في أيامه, أقاصي الهند وآسيا الوسطى حتّى الصين. وانهالت عليه الدعوات لاستزارته وبخاصة من ملوك الهند وخواقين التُّرك وسائر عواهل الشرق. إلاّ أنّ ركوب البحار والضّرب في الفيافي لم يكن حاجة في نفسه, ولا مطيّة لراحة نفس قلقة, ولا سعيًا إلى كشف الأسرار!
فقد كان قلبه زاخرا بالتجارب, عامرا بالحكمة أوتيها خيرا كثيرا, يكشف به, في لحظة تجلٍّ, ما لا تكشفه الأسفار ولا تتسع له الأعمار. أليس هو القائل ما ترجمته بالعربيّة:
جامَ جَمشيدَ كم تمنّى فؤادي كَشفَ غيبٍ, وأنتَ فيه مَعادي!
فؤاده مرآة لمشاهد الكون وأسراره. لسنينَ طويلةٍ كان يُلحُّ على الشاعر بأن يستحصل على كأس جمشيد السحريّة فيتملّى فيها ما في الكون وهو في مكانه! وما كان يدري أنَّ في مرآته - إذا ما صُقِلت - تتجلى تلك المشاهد والأسرار وأنه يطلب عند سواه ما عنده.. فالفؤاد هو المبدأ والمعاد!
وهكذا قبع حافظ في شيراز الفاتنة لا يبرحُها, إذ كانت بالنسبة إليه عالما مصغّرًا وصورة عن العالم الأَكبر, وكان فؤاده جام جمشيد أي كأس جمشيد, وكذلك يكون فؤاد كلّ منا, كما علَّمنا, إن سرْنا على هديه.
ثم إنه كان له من مفاتن الطبيعة والحدائق وصروح العمران في شيراز ماكفاه تجشّم الأسفار وحمل عصا التّسيار. فقد كان شديد التّعلُّق بمفاتن مدينته على عكس مواطنه سعدي شاعر شيراز والأسفار وراكب المغامرات. صرّح بذلك في شعره. وحافظ, وإن تمنّى زيارة بغداد حاضرة الدّنيا وكرسيّ قادر شعره السلطان أحمد بن أويس الجلايري, يعترف بأن جمال شيراز يأسر قلبه!
يقول في غزلية ما ترجمته بالعربية:
كفاني الضَّرْبَ في الآفاق والسَّفرا صبا (المصُلى), و(رُكْنابادُ), عِمْ نهرا
هكذا لازم حافظٌ شيرازَ, لكن شهرته, مبدعًا, ملأت الآفاق. وضمّت مدينة الجمال والشعراء والأولياء مثواه الأخير وجسده الفاني لتبقى روحه حيّة وتملّ الثواء الدائم, ولو في بقعة المصلّى الغنّاء وعلى ضفّة ركناباد الضاحكة, فتنتقل من المشرق إلى المغرب.. في ترجمات فريدريش روكرت وتحيّات شاعر ألمانيا العالميّ جوته واقتباساته, ونتاج الكثيرين من شعراء العالم.
بين المهد واللحد
فارق حافظ هذا العالم المحسوس عام 1389للميلاد/ 792 للهجرة النبوية. وكان أبصر النور في شيراز في أواسط النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد/ النصف الأول من القرن السادس للهجرة. كان والده بهاء الدين قد هاجر من أصفهان إلى شيراز في عهد أتابكة (فارس) وأصاب ثروة. إلا أنّ تجارته اضطربت بموته فاضطرت زوجته وابنه الحدث إلى العيش في ضنك مما ألجأ الفتى إلى العمل بكدّ كي يقيم أوده وأود والدته. إلاّ أنه كان ميالا إلى المعرفة شغوفًا بالعلم فكان يختلس الوقت للتردد إلى كُتَّابٍ قريب حيث تعلَّم مبادئ القراءة والكتابة, وأدّى به الجهد المتواصل إلى حفظ القرآن غيبًا فحاز لقب حافظ الذي يُسبَغ على من لا يخطئ في حفظ القرآن. وقد ناسب بينه وبين لقبه الشعريّ المعروف بالفارسيّة بمصطلح (تَخلُّص) الذي درجت عادة الشعراء على ذكره في البيت الأخير من غزليّاتهم, وهو يعني, لغةً, الانتقال, وفي هذا السّياق, الانتقال إلى الختام أوالنهاية.
شرع حافظ بصياغة الشعر وترويض طبعه فيه مكملاً ما كان بدأ به من دراسة علوم الدين واللغة والأدب والتاريخ وما إليها. ذلك بيّنٌ في شعره من إشاراته الموجزة ومن خلال أبياته وقطعه الملمّعة وإيحاءاته المتعلقة بما ورد في الشعر العربي وفي الآيات القرآنية والقصص القرآني. كما أن محمد كلنْدام جامع ديوانه قرر هذا الأمر بصراحة إذ قال إن لحافظ مطالعات وتحقيقات في علوم الأدب بشكل عام وفي دواوين شعراء العرب أيضا. ثم إن حافظا نفسه كرّر في أبيات له حفظه القرآن بزهوٍ واعتزاز, قارنا ذلك أحيانا باطلاعه على الحكمة وآثار الحكماء والعلوم العقلية إضافة إلى العلوم النقلية من مثل قوله ما ترجمته بالعربية: لم يجمع أحد من الحفّاظ (حفظة القرآن) مثلي بين لطائف الحكماء ومضامين القرآن.
ومن أسف أنّ مؤرخّي الأدب من القدماء وكتّاب التذاكر لم يذكروا تفاصيل عن حياة حافظ الشخصيّة والعلميّة, يستوي في ذلك دولتشاه السمرقندي من القدامى وهدايت في القرن التاسع عشر في كتابيهما: تذكرة الشعراء ومجمع الفصحاء (بالفارسيّة).
وهذا كان دأب مؤرخّي الأدب الفارسي من القدامى وأصحاب المجموعات الشعرية. مهما يكن من أمر, يستخلص من إشارات في بعض أبيات حافظ أنه كان ذا عيال وأنه فقد اثنين من أولاده في حياته. كما أنّ ميرغلامعلي آزاد بلكَرامي الهندي, مؤلف كتاب (تذكرة خزانه عامرة) يذكر في كلامه على حياة حافظ أن ولدًا له قدم إلى الهند اسمه (شاه نعمان) وتوفي في مدينة (برهان بور), ودفن في (أسير كره).
أما ما ذكر حول هيامه بفتاة اسمها (شاخ نبات) وأن الأمر انتهى به إلى عقد قرانه بها فليس من سند معتمد يؤيده.
قد تكون علاقة حافظ بملوك زمانه وحكّامه أكثر وضوحًا, نسبيًا, من حياته الحميمة.
فقد كان على علاقة جيّدة بهم, وكانت له عندهم, مكانة رفيعة, لمكانته الشعرية عند الخاصّة والعامّة التي كان يعكّرها, أحيانًا, حسّاده. كان حافظ يلبّي حاجات عيشه مما يغدقه عليه محمد وحوه, خلافًا للرأي القائل أن الشاعر كان في غنى عن أعطياتهم. ذكر شبلي نعماني أنّ زعم الاستغناء هذا تناقضه إشارات في ديوان حافظ وتصريحات, إذ جرى ذكر حكّام عصره بالمديح في كثير من شعره, وبينهم: شاه شجاع, شيخ أبو إسحق, شاه منصور, ملوك يزد وهرموز, وقد عمَد حافظ, أحيانًا, إلى عتاب بعضهم لانحسار فيئه عنه, شأنه مع ملك يزد في غزليّة رائعة ذائعة.
غير أن مديح حافظ ليس من النوع التكسُّبي الملحاح الذي درج عليه شعراؤه المعروفون في الأدبين الفارسيّ والعربيّ والذي كان يرتدُّ, أحيانًا, هجاءً للممدوح إذا قلّ عطاؤه. بل إنه كان لمحًا أنيقًا بعيدًا عن الزُّلفى والتملُّق الشائع يمرّره, في أغلب الأحيان في خواتم غزليّاته, موجزًآ خاطفًا.
سيّد الغزل
في هذا الصدد تجدر الإشارة الى تفوق حافظ في فن الغزل بحيث غدا لصيقًا باسمه, على كثرة شعراء الفارسيّة الذين أخذوا به قبله وبعده.
ولا غرو, فقد بلغ هذا الفنَّ على يدي شاعرنا أوج كماله من حيث المعنى والصياغة, والإعجاز بالإيجاز, وتماهي العشق الحقيقيّ بالعشق المجازي, فإذا الأرض والسّماء متوحّدتان تنتظم مظاهرهما دُرّا منضودًا في عقد من السّحر الحافظيّ, يطوّق جيد الملاحة الأثيريّة في وحدة وجود تزعق بصور الحبّ, وكأنّها تردّد سرمديّا:
ليس في الدّار غيرهُ ديّار...
قال السّركَور أوزلي:
بيانه واضح ومتناغم لا يعروه عيب, تستشفّ منه علمه الكامل ومعرفته الناضجة. وهو ينبئك عن سبرْ بواطن الأشياء وحقائقها الكامنة متجاوزًا الظواهر إليها.
إلا أن الأعظم من ذلك أنّ بيانه بلغ من السحر والفتنة مبلغًا لا يداني مرتبته أيّ شاعر من سائر الشعراء.
صحيح أنّ حافظ أخذ بهيكليّة الغزليّة الفارسيّة كما تكاملت مع سابقيه العظام أمثال سعدي الشيرازي وأمير خسرو الدهلوي فكانت تراوح لديه بين الأبيات السبعة والاثني عشر بيتًا, بشكل عام وتختم بتخلّص الشاعر أي بذكر لقبه, إلاّ أنه من حيث المضمون, جعل منها عالمًا من الأفكار والتأمّلات والعِبر. فبعدُ إذ كان موضوعها يدور قبله على العشق وحسب, فتح له حافظ بابًا رحبًا على سهل الحياة المنبسط الأرجاء, تتوالى فيه مشاهد الحياة المتباينة, المتناقضة, المفاجئة: من تبدّل أحوال الدّنيا ذلا بعد عزّ, إلى زوال الممالك وتعاقب الفرح والحزن, والشباب والشيخوخة, والحياة والموت. فإذا به يصوغ تجاربه في نظرات فلسفية عرفانيّة نافذة تشرقُ في غزليّاته برقًا خاطفًا يُنير أرجاء النفس الانسانيّة باللمح البليغ كنور الليزر يستأصل ولا يبضع, لكأنه آسٍ يجسُّ عليلاً على حدّ تعبير المتنبي.
لقد غدا غزل حافظ عالمًا قائمًا بذاته متجاوزًا الخاطرة العشقيّة المكرورة, والمعاني المطروحًة, والصّورَ المألوفة المتناسخة إلى أنوار شعشعانيّة تعرّي النفس الإنسانيّة وتكشف كوامن الأسرار. وليس من عبث أن تمنّى حافظ - كما تمنى قلبه سنوات طوالاً - أن يظفر بكأس جمشيد (جام جَمّ) ليقرأ في جنباتها أسرار الناس. لقد أوتي الكأس الجمشيديّة, بعد مجاهدة طويلة قطع خلالها أودية الكشف السبعة, فإذا خفايا الكون والناس دانية القطوف بين يديه يتملاّها فتريه الرؤيا مالم تره عين, ويُسمعه همس الإيحاء ما لم يخطر على قلب بشر! ألا بورك له اللقب الفرد يتوالد ألقابًا: لسان الغيب, ترجمان الأسرار, حافظ السّحر...
تجسيدًا لما سبق الكلام عليه, نقدّم ضمن هذا المقال نموذجًا لغزل حافظ المعبّر عن مواقف مكثّرة من حياتنا مترجمًا بالعربيّة.
جامُ جمشيد
جامَ جَمشيدَ, كم تمنّى فؤادي
كشفَ غيبٍ, وأنت فيه مَعادي!
صَدَفُ الأيْسِ جوهراً ما احتواهُ,
كيف يَمتاحهُ من البحر صَادي?
زُرتُ شيخَ المجوسِ ليلاً أُرَجّي
كشف سِتر عن المُعمّي المُعادِ:
جامُ راحِ بكفّه, وطَروبٌ,
يقرأ الكون في حبابها منذ عاد!
مُذْ متى كاسُك العجيبةُ فضلٌ
مُذْ أقام السّما بِغَيرِ عِمَادِ!
شَعْوذَ العقلُ, قبلَهُ سامريٌّ
بالعصا بزّهُ, بِبيض الأيادي!
ذلك الخلُ شرّفَ العُودَ صُلْبًا:
كان جُرمًا أنْ باحَ بالسِّر شادي...
روحُ قُدْسٍ لو عاد بالفَيض مَثْنيً
فَعَلَ القومُ كالمسيح الهادي
فيضُ ضفْرِ الحِسَانِ لِمْ كان? قالوا:
(حافظ زَفَرُهُ مديدُ التنادي....)
* ترجمة فكتور الكِك
ديوان حافظ
غزليات بالانجليزى والفارسى
http://www.hafizonlove.com/divan/
بعض من نصوص حافظ شيرازى بالانجليزية
http://www.khamush.com/sufism/hafiz.htm