أبولودوروس الدمشقي والعمارة التراجانية
تشير المصادر التاريخية إلى أن صداقة عميقة قد جمعت بين الإمبراطور الروماني تراجان والمهندس الشهير أبولودوروس الدمشقي، وعلى ما يبدو فإن الإمبراطور الروماني الشغوف بإسباغ مظاهر الأبهة المدنية على إمبراطوريته العامرة، قد وجد ضالته في هذا المهندس العبقري الذي جمع بين لا محدودية التخييل والإبداع المشرقي والدقة المحكمة للهندسة اليونانية وأصولها الفلسفية والمعرفية العميقة، فكانت النتيجة عمراناً واسعاً لم يتمكن الآثاريون والمنقبون حتى الان من الإحاطة بكل ما بقي منه، ناهيك عن الإحاطة بشكله الأصلي الذي ما يزال مدار بحث ونقاش واسع في الأوساط العلمية والفنية. تصميم مصغر للميادين الإمبراطورية التراجانية في روما لقد اشترك أبولودوروس بمشاريع تختلف فيما بينها، وتراوحت بين التخطيط العمراني الواسع النطاق، وإنشاء المباني والجسور والمعابد، والأعمال الفنية المختلفة. وربما يعود ذلك إلى اتساع معنى المهندس واختصاصه في ذلك الزمن، فقد كان عمله يشكل عدة مجالات منها التصميم والتنفيذ والنحت وغير ذلك، ما يجعلنا غير قادرين اليوم على التفريق بين العناصر الفنية والتقنية، وبين المهندس المعماري والمصمم والفنان فثقافتهم كانت تجمع كافة هذه التخصصات في آن واحد.وهكذا نجد أن مروحة أعمال أبولودوروس قد انتقلت من بناء محفل تراجان (الفوروم) وسوق تراجان، وصولاً إلى بناء جسر الدانوب العملاق الشهير، ومروراً بإنشاء التحفة المعمارية الفنية الرائعة المعروفة باسم «عامود تراجان» ناهيك عن مشاركات لا تعد ولا تحصى في مشاريع معمارية ومدنية وفنية أخرى.
السوق التراجانية (سوق تراجان)
كلف الإمبراطور تراجان المعماري أبولودوروس إنشاء سوق في روما تحمل اسمه، وذلك نحو عام 108- 109م، وقد اعترضت المهندس مشكلة وجود رابية الكوبريناليس في الجهة الشرقية من الأرض المعدّة للمشروع، إذ إن هذا المرتفع كان يعوق الحركة ويشوه المنظور العام، من جهة، ويتسبب بانهيارات مفاجئة، من جهة ثانية. وقد وفق أبولودوروس إلى حل يحقق الغايتين الجمالية والعملية في وقت واحد، فاقتطع حافة الرابية وأنشأ مكانها سوقاً مجمَّعة ومسقوفة، وفق الأسلوب الشرقي، وجعلها على شكل قوس كبيرة تتدرج عند الرابية بطوابق ستة، تضم نحو 150 دكاناً. وتنفتح دكاكين الطابق الثالث على طريق سُميت «فيابيبيراتيكا» (ما يقابل «البزورية» باللهجة الشامية) وتضم السوق فضلاً عن ذلك مقراً لمتولّيها، وقاعة للاجتماعات والمزاد، وصالة بيع شعبية بأسعار مخفضة، وغير ذلك.إن سوق التي بناها أبولودوروس، والتي ما تزال ماثلة في روما، حققت في حينها مركزاً تجارياً واجتماعياً كبيراً في أقل مساحة ممكنة، وظلت حلاً معمارياً يستهوي المصممين عبر العصور من حيث البساطة والجمال والفائدة القصوى، كما أنها منعت انهيار أطراف الرابية، فضلاً عن أنها خلقت خلفية بديعة للمجمع المعماري الضخم (الفوروم) الذي أمر تراجان ببنائه.أسواق تراجان في روما: المبنى الدائري الكبير، الواجهة التي تطل على ميدان تراجان وتظهر الأبحاث الأثرية التي تجري اليوم في سوق تراجان مدى الروعة التي كان عليها السوق آنذاك. فالجزء السفلي من الأسواق يتكون من بنائين يحملان الشكل الدائري، وقاعتين، ومبنى دائري صغير، ويبدو أن المبنى ذي الشكل الشبه دائري وظيفته احتواء كافة الأبنية السابقة الذكر، فيما كان البناء الصغير يلعب دور حلقة وصل بالفوروم التراجاني، ويؤكد النظام الزخرفي والألوان في القاعتين أنهما كانتا مستخدمتين لتلعبا وظيفتين مختلفتين، وينتهي البناء الأسفل بقاعات عالية مقببة تفتح على الدرج المسمى كامبو كارليو. نجد كذلك قاعات صغيرة ربما استخدمت كحوانيت وأروقة معمدة ونظاماً لتصريف المياه، بالإضافة إلى قاعة كبيرة مقببة بست قبب متداخلة، وما زالت التنقيبات والدراسات مستمرة لمعرفة تفاصيل هذه السوق الواسعة.
المحفل (الميدان، الفوروم) التراجاني (المحفل الإمبراطوري في عهد تراجان)
يتفق المؤرخون على أن منطقة الوادي التي تم عليها بناء المحافل (الفورو) كانت منطقة مستنقعات بادئ الأمر ولم تكن صالحة للسكن، بل ربما استخدمت كمقابر. وتشير التقديرات أن محاولة تبليط هذه المنطقة السهلية الواقعة بين ثلاثة من تلال روما الرئيسية بدأت عام 600 ق. م. ومع نهاية الحرب البونية بين روما وقرطاجة، كانت روما قد أصبحت سيدة العالم القديم والمسيطرة على حوض المتوسط، ومع نهاية النظام الجمهوري الروماني، كانت روما قد أصبحت عاصمة لبلاد ممتدة من فرنسا حتى سورية، وأصبح المحفل القديم (المبني في العهد الجمهوري) غير صالح لإدارة إمبراطورية. وقد بدأ يوليوس قيصر بتشييد مركز معماري جديد بدا أولاً أنه مجرد توسيع للمحفل الجمهوري، إلا أن ذلك كان بداية لتشييد واحدة من روائع المنجزات المعمارية في العصر القديم ألا وهو ما أطلق عليه اسم «المحافل الإمبراطورية Fori Imperiali».نشأت المحافل الإمبراطورية في أماكن مخصصة ولأهداف معينة تمارس بداخلها كي تمارس بداخلها الأعمال اليومية التي كانت تمارس في فترة النظام الجمهوري الروماني، وهكذا حافظ الأباطرة عند تشييدهم لها على نفس المسقط الهندسي والتقسيمات الداخلية والخارجية التي كانت تتميز بها المحافل الجمهورية. منظر للمحفل التراجاني وفي الخلفية
يبدو عامود تراجان لقد كانت ميادين عصر الإمبراطورية تحتل المركز الرئيسي للمدينة، وذلك لأنها كانت تشكل نقطة أساسية للشعب، فهو يقوم فيها بمزاولة أعماله اليومية المدنية منها والسياسية، وقد تم منع عربات النقل من العبور إلى مراكز المحافل، وذلك من خلال بناء حواجز أو أبنية عامة أو أدراج. وهكذا أصبح المحفل مركز حكم الإمبراطورية ومركز قوتها السياسية وتم التخلي عن مراكز الحكم السياسية السابقة التي لم يعد لوجودها معنى. وهكذا فقد انتشر النظام المعماري المستخدم في المحفل الإمبراطوري في كافة أنحاء المدن التي كانت تقع تحت سيطرة الإمبراطورية، بحيث أصبحت تعتبر استمرارية للحكم السياسي والمدني الذي يربط بين مركز الحكم الرئيسي وبين محافظاته.شرع أبولودوروس في بناء المحفل (الميدان) بُعيد البدء في بناء السوق أو في وقت واحد معه، وقد أنجزه عام 112م فأزرى بكل ما عداه من ميادين في روما وفي العالم: إذ تزيد مساحته على خمسة أضعاف مساحة ميدان الإمبراطور أغسطس. أما من حيث الجمال فهو، كما ورد في تاريخ كمبردج القديم «أعجوبة كل العصور». ومن المحتمل، في رأي بيانكي باندينيللي، أنه استوحاه من الساحة الرحيبة المروَّقة التي كانت تحف بمعبد جوبيتر في دمشق.تصميم ثلاثي الأبعاد للمحفل التراجاني من الجهة الشمالية ضم هذا الميدان (المحفل)، والذي يبلغ طوله 300م وعرضه 185م، مساحةً رحيبة، وأواوين، وقوسَ نصر، وعموداً تذكارياً عملاقاً (عامود تراجان)، وتمثالاً فروسياً، وداراً للعدل، ومعبداً، وتفاصيل معمارية وزخرفية رائعة سكبت على أرفع ما يكون من الانسجام والتناسق. وتضافر ذلك كله ليجعل منه مجمَّعاً باهراً سُحر به القدماء وتمنى الملوك نظيره، وعُدّ «واحداً من أروع لآلئ الفن الروماني».وهكذا عوض المهندس أبولودوروس أثناء تشييده لآخر المحافل الإمبراطورية عن هدفه لمباني الحكم والمباني العامة ببناء أجمل وأضخم بناء عرفه التاريخ القديم. ومع مرور الزمن أصبحت روما من المدن القليلة التي تحتوي على أضخم وأجمل المباني المستخدمة في الحكم والقضاء والتجارة، والأهم من ذلك أنها أصبحت تمتلك أضخم بناء يستخدم لتمثيل الإمبراطورية.
عامود تراجان
طلب الإمبراطور تراجان من أبولودوروس الدمشقي أن يشيد له عموداً يتخذه شاهد قبر له وذكرى للمنشآت البديعة المنفذة في هذا الميدان الرائع، فقادته عبقريته الفذة إلى تصميم عمود لم يسبق له مثيل في تاريخ الفن العالمي، وأتمه في عام 113م. يرى النقاد أن هذا العمود العملاق (طوله 30 متراً) المزين بإفريز حلزوني منحوت يدور حول جذعه، يكاد يكون فلماً تسجيلياً. ولعل أبولودوروس قد استوحى نماذج نحتية من الأوابد الآشورية في بلاده الأصلية. ويروي الإفريز الدائر بالعمود بطول 200م قصة الحربين اللتين خاضهما تراجان في داسية (رومانية) ما بين عامي 101- 106م. وهو يسرد بالنحت أدق تفاصيل الاستعداد للحرب والمعارك والأزياء والأسلحة وأجناس المحاربين ومنهم الرماة التدمريون. يقول ويلر: «إن هذا الشريط هو الأعظم بين إنجازات الفن التاريخي الروماني، وإن العمل يسير فيه متتابعاً من غير تردد، ومن مرحلة إلى أخرى، والنحات يبرهن فيه على تمكن تام وحساسية فائقة». وقد جرى تقليد هذا العمود مرات عدة، ففي عهد الإمبراطور أركاديوس (408م) بُني عمود مماثل في القسطنطينية، وهناك عمود برونزي مشابه في كاتدرائية هيلدسهايم في هانوفر بألمانيا بني سنة 1022م تقليداً له، وتمثل المنحوتات فيه حياة السيد المسيح. وفي فرنسا أقيم عمود فاندوم تخليداً لحملات نابليون، ونقوشه البارزة تقليد للأسلوب المستمر في عمود تراجان. عامود تراجان
تظهر المقارنة بين أطباق قوس هادريان الذي نقشت عليه منحوتات تمثل مناظر لعمليات التضحية والصيد، والتي تدخل تحت غطاء النظام الزخرفي للإمبراطورية الرومانية تأثر هذا النظام بالنظام الهلنستي الذي عبر عنه عامود تراجان. ويمكن القول أن المقارنة بين مشاهد العامود والقوس سوف تصل بنا إلى نتيجة، خاصة وأن المعلومات التاريخية تؤكد مشاركة هادريان في حرب داسية ويمكن التعرف عليه في منحوتات عامود تراجان. وقد ركز الفنانون الذين قاموا بنحت هذه الرسومات على المناطق الريفية التي مر بها الجيش الروماني كما ركزوا على الجانب المعماري ومسار الأنهار وشكل الأرض لتحديد الفروقات بين هذه المواقع. وتؤدي المقارنة بين المنحوتات التراجانية والهادريانية (نسبة لهادريان) إلى تبني فكرة وجود وحدة في الطراز الفني لا تنبع فقط من النظام الهلنستي، بل من وحدة من قام بهذه الأعمال من ورش وفنانين.إن بعض المناظر المنحوتة في نهاية عامود تراجان تمثل صفاً من الحيوانات الأليفة تتبختر على الأرض الصخرية بين الأعشاب والأشجار: فهذا المنظر يعني نهاية الحرب الداسية الثانية، أما صورة الخروف الذي يأكل بهدوء تام بعض الأعشاب البارزة من الأرض فهذا يعني رسالة أمل لسلام دائم. من هذه المناظر استقى هادريان منحوتات أطباقه فهو يريد أن يبث رسالة سلام دائم لأمته.
تفصيل من عامود تراجان
يصف الآثاري ف. كواريلي في كتابه «دليل آثار روما» عامود تراجان فيقول: «يعتبر عامود تراجان من أبنية المحفل التراجاني الوحيدة التي وصلت إلينا بحالة معمارية جيدة. لقد تم بناؤه بكتل ضخمة من الرخام اللوني وقد ركز على قاعدة مكعبة الشكل، وتم تمثيل نظام زخرفتها على هذه القاعدة حيث مثلت أيضاً باربعة صقور تحمل شريطاً. إن سطح قاعدة العامود أملس جداً وقد تم تغطيتها بمنحوتات بارزة مثلت الأسلحة التي كان يستخدمها الشعب الداسي خلال حروبه ضد الرومان. أما الجهة المطلة على بازيليكة أولبيا فهي تحتوي على المدخل الرئيسي والذي من خلاله يمكن الدخول إلى غرفة داخلية صغيرة المساحة حيث يقع فيها الدرج اللولبي الذي نحت في نفس الرخام المكون منه العامود وهي تؤدي مباشرة إلى قمته. وهناك لوحة كتابية تقع فوق المدخل الرئيسي مباشرة وهي مكرسة لآلهة النصر. إن مضمون هذه الكتابة هو ما يلي: "من السناتو والشعب الروماني إلى الإمبراطور قيصر نيرفا تراجان ابن الإمبراطور نيرفا الألماني الداسي، الحبر الأعظم والذي ولي نظام القضاء للمرة السابعة عشر ونودي إمبراطوراً للمرة السادسة وقنصلاً للمرة السادسة، ومن ثم أصبح أباً لوطنه". إن الهدف من هذه الكتابة هو تكريس البناء لتراجان، لكن هناك هدفاً آخر هو إثبات الارتفاع الذي كان يصل إليه التل الذي هدم بعد القيام بأعمال شاقة وجبارة».تم الانتهاء من تشييد العامود عام 133م (اي بعد عام من الاحتفال بافتتاح محفل تراجان). ويعتقد أن تشييده جاء استجابة لثلاثة أمور: 1- تحديد ارتفاع التل الذي هدم من أجل تشييد الساحة التي يقع عليها محفل تراجان 2- رفع تمثال تراجان البرونزي المذهب بحيث يصبح أعلى التماثيل التذكارية الموجودة في روما 3- تكريسه كضريح تكذاري للإمبراطور (يحتوي العامود على 58 مشهداً لتراجان، وفي أحدها يعتقد أن أبولودوروس يظهر معه).
تفصيل من عامود تراجان
إن الأجزاء الأكثر وضوحاً وشهرة في هذا العامود هي المنحوتات التي نحتت على 23 لولبة يبلغ طولها 200 متراً وتقوم بسرد قصة الحروب الداسية التي دارات رحاها في الفترة الواقعة بين عامي 101 و102م والتي تلتها فترة ثانية من الحروب الداسية بين عامي 105 و106م. ولحسن الحظ فقد احتفظت برونقها وسماتها حتى يومنا هذا وتعد من روائع الأعمال الفنية.وقد بلغ ارتفاع العمود 100 قدم روماني (ما يعادل 29.78 متراً و39.83 مع القاعدة)، وهو القياس الذي كان يستخدم آنذاك في الأبينة التذكارية، وقد تم وضع التمثال البرونزي المذهب لتراجان على قمة هذا العامود ولكنه فقد خلال القرون الوسطى، وتم استبداله في القرن الخامس عشر بتمثال آخر يمثل القديس بييترو وذلك بطلب من البابا سيستو الخامس.وربما سمح وجود درج لولبي يمكن الوصول من خلاله إلى قمة العامود بالحفاظ عليه، خاصة في العصور الوسطى، حيث يمكن للزائرين الصعود إلى القمة لمشاهدة كنائس روما، لهذا فقد نجا هذا البناء من عمليات الهدم التي كانت تتم في روما للحصول على مواد البناء للأبنية التي كانت تنشا في القرون الوسطى.إن هذه الأعجوبة المعمارية والروائع الفنية التي نقشت عليها جعلت من العامود مطمحاً لكثير من الطامحين، وما يثبت ذلك المخطوطات التي عثر عليها والتي تظهر عمليات نسخ لمنحوتات العامود تمت في القرن الخامس عشر، وكذلك تاريخ صناعة القوالب تظهر أن أغلب حكام القرن الثامن عشر في أوروبا لم يكونوا راغبين فقط بالتعرف على منحوتات هذا العامود الرائع، بل ربما الاستيلاء عليه كلياً.
حمامات تراجان
يعتبر المؤرخ الروماني كاسيو ديوني أن أهم الأعمال التي قام بها المعماري أبولودوروس إنما هي تلك المتعلقة بتصميم وبناء حمامات تراجان والتي تقع على مرتفع كولي ابيو في مدينة روما، والتي كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم المحافظة الثالثة.ويمكننا إعادة رسم الخطوط العريضة للمخطط العام لتلك الحمامات معتمدين في ذلك على: 1- بقايا المباني الكبيرة التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا 2- المقارنة بين كل من هذه الحمامات وبين شبيهاتها التي بنيت في فترات سابقة من الإمبراطورية 3- من خلال بقايا الرسم الرخامي للمدينة والذي يعود لفترة سبتيموس سيفيروس ويمثل الجزء الشمالي من الحمامات 4- من خال الرسومات الهندسية التي وصلت إلينا.
حمامات تراجان في روما
تقع هذه الحمامات حالياً داخل ما يسمى بمحمية تراجان على مرتفع كولي أبيو (رابية الأسكويلينوس)، وتم إنشاء المحمية بين عامي 1935 و1936 للحفاظ على هذا التراث العظيم. وقام أبولودوروس بإدخال أفكار معمارية تصميمية جديدة في بناء هذه الحمامات حيث وضع اتجاهها شمال-شرق/جنوب-غرب بشكل مخالف لاتجاه الأبنية السابقة وذلك في محاولة لاستغلال اكبر قدر ممكن من الضوء ودفء أشعة الشمس، فيما تم توجيه مبنى الماء الساخن نحو اتجاه جنوب-غرب. لم تكن تلك الفكرة الجديدة الوحيدة في تصميمات أبولودوروس بل استغل مساحة شاسعة تقدر بستة هكتارات لبناء هذا النوع من الحمامات وهي تعتبر الأولى من نوعها بين حمامات الإمبراطورية، وتم إدخالها في مساحة خضراء شاسعة، إلى جانب استغلال الأبنية التي تعود إلى حقب سابقة كأماكن لقاءات واجتماعات ومطالعة وغيرها من الأعمال الترفيهية.وهذه الحمامات يقول ليون هومو: «إن الحمامات التي بناها أبولودوروس لتراجان هي التي حددت هيئة الحمامات فيما بعد، إذ أصبح على التصميم أن يلبي حاجتين أساسيتين هما: الاستحمام بأشكاله ومراحله المتعددة من جهة، والترويح والرياضة من جهة ثانية».
ميناء تراجان
يبدو أن طبيعة بناء العاصمة روما على نهر التيبر جعلت منها ميناءً سيئاً للملاحة البحرية ونقل البضائع ولم تسعف بضعة حلول قام بها الأباطرة الرومان بالوصول إلى حل جذري لهذه المشكلة، ويبدو أن آخر المحاولات التي جرت لحل هذه المشكلة كانت على يد الإمبراطور تراجان نفسه، من خلال بنائه لمرفأ أوستيا. لقد استطاع المهندسون المولجون ببناء هذا الميناء من حل إحدى المشكلات التقنية الكبرى وهي مشكلة رسو السفن، وذلك من خلال فكرة هندسية تقو على بناء بحيرة سداسية الأضلاع يبلغ طول كل ضلع منها 357.77 متراً ما جعل مساحتها تقدر بـ 32 هكتار مع طول 2 كلم لكل مرسى، وسمح هذا بدخول أكبر عدد من السفن إلى الميناء دون حدوث مشاكل جدية. وبالنظر إلى حجم الميناء الأصلي والمباني الأخرى التي شيدت من أجل خدمات الميناء يبدو أن بحيرة تراجان هذه كانت تستطيع احتواء 400 سفينة من الحجم الضخم في وقت واحد.
مجسم تصميمي لميناء تراجان في مدينة أوستيا
رغم عدم وجود وثائق تاريخية تتحدث عن من قام بمثل هذا العمل، إلا أن الفترة الزمنية التي تم إنشاؤه فيها والطريقة الفنية التي اتبعت في تحقيق هذا العمل، تدل على أنه ارتبط بتلك الأعمال الهندسية التي قام بها المعماري الشهير أبولودوروس والذي عمل إلى جانب تراجان في جميع الأعمال التي قام بها، بالإضافة غلى أن الحوض المضلع للميناء يشبه من حيث الشكل النماذج الهلنستية – السورية.
فيلا تراجان في أرشينازو رومانو
تنتشر فيلا تراجان الواقعة على مرتفعات أرشينازو رومانو على بعد 60 كم شرق مدينة روما – بما فيها حدائقها – على محاذاة شارع على هضاب جبل ألتوينو الذي يصل ارتفاعه إلى 1271م، عبر سلسلة جبال أفيلاني وعلى الضفة اليسرى من نهر أنيي. ويعتقد أن هذه الفيلا قد شيدت عام 100م تقريباً وتم إكمال بعض الأعمال فيها بعد أكثر من عشر سنوات على بنائها. ورغم كون تراجان غائباً عن روما في تلك الفترة، نظراً لمشاغله السياسية وحروبه، إلا أن قنوات المياه المصنوعة من الرصاص والتقنية المعمارية المستخدمة في بناء هذه الفيلا تعد دليلاً كافياً لإثبات نسبها إلى تراجان. ناهيك عن كتابة ضريحية تعود إلى القرن الثاني في محيط الفيلا، كرست من قبل ابن ليبرتي إلى زوجة تراجان. ناهيك عن الحب الذي كان يكنه تراجان للجبال والصيد فيها وفق ما نقله المؤرخ الروماني بلينيوس الشاب في تأريخه لتراجان.إن الطراز الهندسي والمعماري للفيلا والبقايا الزخرفية والفسيفساء الزجاجية الملونة، والروحية التي أنشئت فيها بالإضافة إلى الفترة الزمنية تشي بأن مصممها هو الأرجح نفس المعماري الشهير الذي قام ببناء عمارة تراجان.
الجسر العملاق على نهر الدانوب
لم يكن أبولودوروس في الأصل سوى المهندس الحربي للإمبراطور تراجان، وقد رافقه في حربيه في داسية (رومانية حالياً)، وبين الحربين الداسيتين الأولى والثانية (104-105م)، وضع تصاميم هذا الجسر وأنشأه على الدانوب عند مضيق بوابات الحديد قرب مدينة دوبريتي دوريسين الحالية في المجر، مستخدماً جيشاً بتمامه مدة عام كامل تقريباً. وقد وصف أبولودوروس هذا الجسر في دراسة له ذكرها المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس.اعترضت أعمال بناء الجسر إقامة أساسات وركائز في سرير النهر، إذ كان من الغزارة بحيث لا يمكن تحويله. لكن أبولودوروس، ولأول مرة في التاريخ، تصدى لمثل هذا العمل الذي يتطلب جسارة تقنية عالية، فنجح في إرساء عشرين ركيزة قوية جداً في لجة النهر، ثم مد الجسر بطول 1097 متراً وبعرض يتراوح بين 13 و19 متراً، وكانت فرجة القناطر بين الركائز 35-38 متراً، كما حصّن طرفي الجسر بالأبراج. وقد أزال الإمبراطور هادريان فيما بعد سطح الجسر حتى لا يستخدمه العدو، ثم أصلحه قسطنطين الكبير في العام 328م، ولاتزال بعض آثاره باقية.
منجزات باهرة أخرى
كانت تلك أهم منجزات أبولودوروس إلا أن هذا لا ينفي منجزات رائعة أخرى وصلت أخبارها من هنا وهناك. ومن بين هذه المنجزات قوس النصر في مدينة بنيفانتوم، وقوس النصر في مدينة إنكونا. كما ينسب إليه كذلك إفريز ضخم منحوت كان معداً ليقام في مكان ما من المحفل (الفوروم) التراجاني. ومن منجزاته أيضاً مسرح موسيقي (أوديون) في مونتي جوردانو. أما في مجال السباقات فقد أنشأ أبولودوروس حلبة بطول مرحلتين (أكثر من 300م) إلى الشمال من موقع مدفن هادريان على ضفة نهر التيبر في روما، وكانت مخصصة لتمثيل المعارك البحرية. ومن أعمال أبولودوروس أيضاً الشروع بتشييد المعبد المخصص لتراجان، والذي حدد مكانه في صدر الفوروم التراجاني، وأكمل بناؤه فيما بعد.